لماذا يتأسف العدالة والتنمية على بلاغ وزارة الخارجية؟

لماذا يتأسف العدالة والتنمية على بلاغ وزارة الخارجية؟

ذلك الغصن من تلك الشجرة…

عبد السلام بنعيسي

تعقيبا على بلاغ وزارة الخارجية المغربية بشأن العدوان الأخير الذي شنته القوات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، عبر حزب العدالة والتنمية المغربي، “عن أسفه العميق للغة التراجعية لبلاغ وزارة الخارجية الذي خلا، على غير العادة، من أية إشارة إلى إدانة واستنكار العدوان الإسرائيلي ومن الإعراب عن التضامن مع الشعب الفلسطيني والترحم على شهدائه، بل خلا من أية إدانة لاقتحام الصهاينة لباحات المسجد الأقصى”.

 وأعرب الحزب “عن استغرابه الكبير لكون البلاغ المذكور ساوى بين المحتل والمعتدي الإسرائيلي، وهو يصف ما تتعرض له غزة بالاقتتال والعنف، والحقيقة أن الأمر يتعلق بالقتل والتقتيل الذي يمارسه الاحتلال الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني…” وأضاف بلاغ الحزب أن هذا “يعني الهروب من إدانة المعتدي، وهو موقف غريب لا يشرف بلدنا”.

رغم أهمية البلاغ المشار إليه أعلاه، من حيث الشكل واللغة المصاغ بها، فإن الذي يتناساه حزب العدالة والتنمية هو أن بلاغ وزارة الخارجية المغربية يؤطره التطبيع القائم بين الدول الثلاث: الدولة الصهيونية ونظيرتها الأمريكية من جهة، والدولة المغربية من جهة أخرى، إنه بلاغ يندرج في سياق العلاقات التي أضحت عادية وطبيعية بين المغرب والكيان الصهيوني منذ 10 دجنبر 2020، تاريخ التوقيع على التطبيع المشؤوم.

 وكلُّ بلاغٍ صادر اليوم عن وزارة الخارجية المغربية بالشكل الذي يقترحه عليها حزب العدالة والتنمية، سيكون بلاغا نافرا وشاردا عن سياق تبادل الزيارات، واللقاءات، والاتفاقيات المبرمة بين الطرفين، أيُّ بلاغٍ مغربي يندد بما اقترفته القوات العسكرية الصهيونية في غزة ويشجبه، كان سيبدو للرأي العام المغربي، والعربي والإسلامي، بلاغ بلا طعم، ولا رائحة، ولا مصداقية، سيبدو مجرد عبارات لفظية تتنافى مع الأقوال والممارسات في الواقع…

أصلُ العلة في التطبيع، وبلاغُ وزارة الخارجية المغربية الحالي نتاجٌ مُتوقّعٌ لذلك التطبيع المهين الذي جرى التوقيع عليه في عاصمة بلدنا الرباط، وكان الذي وقَّع على التطبيع هو حزب العدالة والتنمية حين كان يقود الحكومة المغربية، وقَّع عليه باسم أمينه العام رئيس الحكومة حينئذ السيد سعد الدين العثماني، وخرج قادة الحزب، يدافعون بحرارة عن التوقيع على التطبيع ويبررونه للمغاربة…

 ومن بين الذين انبروا دفاعا عن التوقيع على التطبيع الأستاذ عبد الإله بنكيران الذي كان إلى لحظةٍ، قبل التوقيع، مغضوبا عليه، ومُقاطَعا من طرف الجميع، وكان في عزلة شبه تامة، وصمتٍ مطبق، بعد منعه من تشكيل الحكومة، ولما جرى الاتصال به من طرف مستشار الملك السيد فؤاد عالي الهمة، رفع بنكيران صوته عاليا بشكلٍ فوري، وأدلى بتصريح صحافي يُزيّن فيه للرأي العام المغربي قرار التوقيع على التطبيع، واستعمل في ذلك عبارات وألفاظا لا علاقة لها بالسياسة بتاتا، وبدا غاضبا في تصريحه، يستهجن رأي الذين لا يقبلون بالتطبيع ويستنكرونه، رغم أن البعض منهم يعارض التطبيع لأنه يرى فيه خطورة محتملة على الوحدة الترابية المغربية…

وحين يندد حزب العدالة والتنمية اليوم بالتطبيع، فأي معنى وقيمة لتنديده؟ هل إذا جرت انتخابات برلمانية سابقة لأوانها وحصل الحزب على الأغلبية المطلقة، وتمَّ تعيين الأستاذ عبد الإله بنكيران مجددا رئيسا للحكومة، وكان طاقمه الوزاري كلُّهُ من أعضاء حزبه، هل سيبادر إلى مراجعة قرار التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ هل سيُعلِّقُه، أو يُجمده، أو يُلغيه، كما فعل حزب الليكود الصهيوني حين رمى اتفاقيات أوسلو التي وقعها سلفه حزب العمل مع منظمة التحرير الفلسطينية، رماها في سلة المهملات، أو كما فعل ترامب حين أوقف العمل بالاتفاق النووي الذي كان موقعا عليه مع إيران من طرف سلفه أوباما؟

الجواب المؤكد طبعا هو لا كبيرة، فقادة حزب العدالة والتنمية يصرحون، عن حق، بأن وزارة الخارجية في المغرب، وزارة سيادية، وأنها خارجة عن نطاق توجيه رئيس الحكومة أو التنسيق معه، الأمر الذي يفيد بأن استنكار حزب العدالة والتنمية المغربي في الوقت الحالي، للتطبيع وتأسفه على بلاغ وزارة الخارجية، كلام يقال للاستهلاك الإعلامي وكفى، ما دام الحزب غيرُ قادرٍ على وقف التطبيع في المستقبل حتى لو كان يرأس الحكومة.

لاشك في أن قواعد حزب العدالة والتنمية وشبيبته وأطره كلهم ضد التطبيع ويرفضونه، ومن المؤكد أنهم كلهم مع القضية الفلسطينية ويساندونها بأفئدة خالصة، وحتى القيادة الحزبية فإنها في معظمها على نفس الخيار، ولكن الواقع السياسي المغربي لا يتيح للأحزاب التي تصل لتدبير الشأن العام، تدبيره طبقا لبرامجها، ووفقا لقناعتها.

البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية معدة سلفا، والقرار في كيفية إدارتها بأيدي الدولة العميقة، وأي حزب يشارك في السلطة تكون وظيفته هي تنفيذ التعليمات التي يتوصل بها، ولا مجال أمامه للاجتهاد أو تغيير أي شيء مما هو مرسوم سلفا، وفي مقدمة ذلك السياسة الخارجية.

الحزبية السياسية في المغرب ماتت وأهيل عليها كمٌّ هائل من التراب والأحجار، وباتت جثة هامدة ومتعفنة، وفشلت سياسة الإصلاح بالتدريج في ظل الوضع الدستوري الحالي، ولم يعد هناك أي مضمون لتغيير الحكومات والوزراء، ما داموا كلهم يؤدون نفس القرارات التي تأتيهم من خارج مكاتبهم المكيفة، والدليل هو أن حزب العدالة والتنمية الذي كان يعارض التطبيع معارضة شرسة، ويعتبر اللغة العربية ثابتا من ثوابت الأمة المغربية، وقّع على التطبيع، ووافق على التخلي على التدريس باللغة العربية وقبِل استبدالها بالفرنسية، وهو يقود الحكومة، فأي معنى لأسفه اليوم على بلاغ وزارة الخارجية المغربية؟

المخرج الوحيد لهذا المأزق والتطور المحجوز الذي يتخبط فيه المغرب منذ زمن بعيد، هو إصلاح دستوري عميق يصبح فيه للمؤسسة الملكية دورا رمزيا جامعا، ووضعُ إمكانيات الدولة وممتلكاتها وقراراتها، بما فيها قرارات وزارة الخارجية، بين أيدي الحكومة المنتخبة لتتصرف فيها طبقا لبرنامج حكومي، يكون القضاء فيه مستقلا وقادرا على محاربة الفاسدين وملاحقتهم، ويكون البرلمان قويا ومنتخبا حقا من الشعب، ومتمكنا من مراقبة الحكومة، ومحاسبتها على أدائها، ويشكل لجان للتقصي والتدقيق في كافة الملفات التي تثار حولها الشبهات..

 والأساسي هو أن يقع حدٌّ لمزج السلطة بالمال، وأن تَرفع أجهزة وزارة الداخلية يدها على الأحزاب والنقابات لكي تقوم بدورها في حرية كاملة، وتتمكن من نفض الغبار على نفسها، والاعتماد على ذاتها لاسترداد استقلاليتها وقوتها، والمساهمة في تأطير المجتمع، والتنافس بينها أمامه ببرامج مقنعة ليختار منها ما يناسبه ويرضى عنه…

 لكن للأسف، الأستاذ بنكيران يعارض الإصلاح الدستوري، وينافح باستمرار، مدافعا، في كل المناسبات، بشكل مستميت، عن الملكية التنفيذية، ولا يقبل عنها بديلا، فلماذا التأسف على بلاغ وزارة الخارجية المغربية بخصوص ما جرى في غزة، ذلك البلاغُ من تلك الشجرة، شجرة التطبيع الملعونة…

Visited 22 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة