تعليقا على قراءة نقدية لخطاب الملك محمد السادس
عبد السلام بنعيسي
تابعنا في اليوتوب حلقة من اللقاء الحواري الذي عنوانه: “المغرب في أسبوع”، والذي استضاف فيه مديره الأستاذ عمر أحرشان، العضو القيادي في جماعة العدل والإحسان شبه المحظورة، الصحافي بوبكر الجامعي، المدير السابق لجريدتي “لوجورنال” و”الصحيفة” الموقوفتين عن الصدور، بسبب التضييق الذي مورس عليهما، والناشط الجمعوي والمعتقل السياسي السابق فؤاد عبد المومني، الذي يتعرض لحدود الساعة لتحرشات الأجهزة، حيث تم تصويره، بكاميرات سرية، ألصقت في غرفة نومه، وهو في لقطات حميمية مع خطيبته التي ستصبح زوجته، والأستاذ خالد البكاري الذي كان عضوا في هيأة تحرير جريدة “أخبار اليوم”، حين كان يديرها توفيق بوعشرين القابع حاليا في السجون.
ودار الحوار في هذه الحلقة حول الخطاب الملكي بتاريخ 20 غشت، الذي ألقاه محمد السادس في ذكرى ثورة الملك والشعب، ولأن المشاركين في الحوار معروفون بأنهم يمتلكون جرأة مناقشة الخطب والقرارات الملكية، وأنهم يبادرون إلى توجيه النقد لها والإعلان عن معارضتهم لمضامينها، حين يتبين لهم أنها تستحق النقد والمعارضة، فإننا كنا أمام حوار خصبٍ، وجريء، ومفيد، دار في هذه الحلقة من “المغرب في أسبوع”.
وأظن أن الإخوة الذين شاركوا في هذا اللقاء معنيون بردود الفعل التي يفترض أن لقاءهم أنتجها، وأنهم سيكونون مسرورين بتلقيها من المشاهدين، خصوصا إذا كانت ردودا تتضمن أفكارا تختلف مع بعضٍ مما قاله المشاركون في اللقاء. ويدخل هذا الردُّ، في هذا السياق، حيث يود هذا العبد الضعيف، أن يحاور الناشط الجمعوي فؤاد عبد المومني، عمّا ورد في فقرات من تدخلاته، بدت لي أنها، تحتاج لأن تكون موضعَ نقاشٍ ومساءلة، وحافزي في ذلك، ومن معرفة شخصية بالمعني بالأمر، أنه لا يتضايق من الرأي المختلف مع رأيه، وإنما يتقبله، ويرحب به بكل أريحية.
ركّز فؤاد في جُلِّ تدخلاته على كون المغرب يجلس في الاتحاد الإفريقي، مع قيادة، ما يسميها فؤاد، “الجمهورية الصحراوية”، مستغربا، كيف أن المغرب يعترض في نفس الوقت، على جلوس أطراف أخرى مع (الجمهورية)، وانتقد الناشط الجمعوي بشدة البلاغات الصادرة عن وزارة الخارجية المغربية، حول الاستقبال الذي خصَّ به الرئيس التونسي قيس سعيد، رئيس البوليساريو إبراهيم غالي، واعتبرها بلاغات ترقى إلى (مستوى السبَّ)، وأنها تتناقض مع تصرفات المغرب في جلوسه مع البوليساريو في الاتحاد الإفريقي.
وأقرَّ فؤاد في تلك الحلقة، بوجاهة وأهمية مبادرة الاستقلال الذاتي التي يطرحها المغرب، كصيغة لحل مشكل الصحراء، ولكنه استبعد إمكانية قبول هذه الصيغة من طرف الصحراويين والمنتظم الدولي، في ظل ما وصفها (الملكية المخزنية الاستبدادية)، واعتبر أنه يتعذر على المغرب التقدم أي خطوة لحلِّ مشكل الصحراء (دون الاتفاق مع الجمهورية الصحراوية، والتوقيع معها على الاتفاق الذي ينهي الصراع)، واستغرب المومني كيف أن المغرب يقبل إنفاق عُشُرَ ميزانيته سنويا في ما أسماه (هوس المصروف العسكري، وهوس المجهود الدبلوماسي في محاولات إرضاء بعض الدول لتكون بجانبه، بالإضافة إلى خسائر عدم فتح الحدود، وعدم خلق الإمكانيات الدنيا للتكامل الاقتصادي والتجاري..)، وخلُص في تدخله إلى أن (مواقفنا هذه هي مواقف تشنُّجٍ وتصعيد، ومواقف الدولة المارقة، وليست مواقف عقلانية، ولا مواقف الحسابات الاستراتيجية، ولن تتيح للمغرب الخروج من التخلف، والمواجهات الفارغة، بغرض التطور، وخلق مناصب شغل وفرص الاطمئنان لمواطنيه…). والآن إلى مناقشة هذه الفقرات التي تبدو محورية ورئيسية في مشاركة فؤاد عبد المومني في الحوار المذكور.
المغرب انتقد الطريقة الاستعراضية التي استقبل بها الرئيس قيس سعيد رئيس البوليساريو، رغم أن تونس لا تعترف بالجمهورية الصحراوية، فأن ينتقل رئيس تونس بشخصه إلى المطار، ويستقبل غالي في مدرج الطائرة، ويتعانقان، ويرافقه في السجاد الأحمر إلى قاعة الضيوف، ويجلسان معا، ويتبادلان أطراف الحديث، والابتسامات المتبادلة تلعو وجهيهما، وتُلتقط لهما الصور، ويُعرض جميع ما وقع، في الوسائل الإعلامية الرسمية التونسية… كل هذا، هو ما أدى إلى غضب المغرب واحتجاجه.
لم يستقبل الرئيس التونسي ضيفه إبراهيم غالي، لأن المغرب يجلس في الاتحاد الإفريقي إلى جانب البوليساريو، كما يوحي كلام عبد المومني، يجافي الحقيقة، إن قال قيس سعيد ذلك، الرجل خَصَّصَ لغالي هذا الاستقبال، لاعتبارات تونسية عديدة يأتي على رأسها، الرضوخ للضغط الجزائري الممارس على تونس التي تعيش في ضائقة اقتصادية شديدة، والجزائر تُقدّمُ لها دعما ماليا سخيا، يُخفِّفُ عنها هذه الضائقة، واستثمارا لهذا الدعم، فإن الجزائر ضغطت للحصول على المقابل، فجاءها المقابل على شكل الاستقبال الصاخب الذي تم تخصيصه لصنيعتها غالي.
ولم يكن في البلاغ الصادر عن وزارة الخارجية المغربية ما يتضمن سبَّا ضد تونس، البلاغ عبَّر عن صدمة المغاربة وغضبهم من هذا الاستقبال الذي فاجأهم به الرئيس التونسي، فهل كان المطلوب من المغرب أن يصمت وألا يقول أي كلمة؟ هل كان منتظرا منه أن يتصرف بشكلٍ محايد كسويسرا؟ ما قام به قيس سعيد كان تصرفا طائشا، ولقد تعرض بسببه، في تونس الشقيقة، لانتقادات شديدة.
ما يثير الحيرة في كلام فؤاد عبد المومني هو عندما يتحدث عن جمهورية صحراوية، ويتكلم بلغة المتأكد من أن مشكل الصحراء لن يُحلّ إلا إذا جلس المغرب مع قيادتها، ووقَّع معها اتفاقيات إنهاء الصراع، فؤاد يَفترِضُ وجود جمهورية صحراوية حقيقية، وأن لها سيادتها على قراراتها، وأنها قادرة، بشكلٍ مستقلٍّ، على التفاوض، وإبرام الاتفاقيات والتوقيع عليها مع المغرب والالتزام بها، والحقيقة التي لا غبار عليها، هي أن هذه الجمهورية المزعومة ليست إلا واجهة للدولة العسكرية الجزائرية، فإذا افترضنا أن الجزائر قبلت اليوم التفاهم وعقد تصالحٍ مع المغرب، وشَطْب هذا المشكل نهائيا من قاموسها، فإن ما يسمى بالجمهورية الصحراوية ستختفي على الفور من الوجود، وستذوب كفصِّ ملحٍ في الماء، وسينتهي النزاع في المنطقة. فلا داعي للنفخ في هذه الجمهورية الورقية، والحديث عنها كأنها جمهورية قائمة حقا، ولها الكلمة الفصل في مسار الصراع بالمنطقة.
وإذا كان فؤاد عبد الموني يقر بأهمية مبادرة الحكم الذاتي كما يقترحها المغرب، ولكنه يرى استحالة تنفيذها في ظل (نظام استبدادي مخزني)، لا يمكن أن يثق فيه المنتظم الدولي، فإن الأسئلة التي تفرض نفسها في هذا السياق هي التالية: هل الصراع في المنطقة بين جهتين، الأولى التي هي المغرب ديكتاتورية ومستبدة، والثانية المقابلة لها التي هي الجزائر أو الجمهورية الصحراوية، ديمقراطية وحداثية ومتطورة، وأن كل واحدة من الجهتين تريد لنمط حكمها أن يسود في المنطقة؟ هل توجد في الجزائر، ديمقراطية؟ هل تجري فيها انتخابات حرة ونزيهة ومستقلة؟ وهل في الجمهورية الصحراوية في تندوف ديمقراطية؟ وهل القيادة الصحراوية تتجدد بشكل دوري، في إطار انتخابات تتخللها منافسة ببرامج مختلفة يشارك فيها الصحراويون بإرادتهم الحرة؟ وهل هناك بوادر لقيام ديمقراطية حقيقية حتى لو تم تأسيس هذه الجمهورية في الأقاليم الصحراوية؟ وهل يجوز منطقيا في عصر التكتلات الاقتصادية القارية الكبرى، إنشاء دولة في منطقة العربي لا يتجاوز عدد سكانها 100 ألف نسمة؟
المعطيات المستمدة من الواقع تفيد بأن غياب الديمقراطية سمة يتميز بها النظامان الحاكمان معا، سواء في المغرب أو الجزائر، وأن الصراع بينهما ليس على هذا المستوى، كما أن آخر همٍّ يشغل القوى الدولية الكبيرة هو موضوع حرية الإنسان وحقه في تقرير مصيره، الأحداث في الباسك وإيرلندا وفي فلسطين المحتلة تفضح سياسة الكيل بمكيالين في تناول مبدأ الحق في تقرير المصير التي تنهجها القوى الكبرى، لأنها لا تهتم إلا بمصالحها الاقتصادية المتأتية من نهبها لثروات البلدان الضعيفة والمتصارعة بينها.
ليس بدوافع شوفينية مغربية، القول إن المشروع الجزائري في الصحراء الغربية لا يهدف إلى إحقاق الحق للصحراويين وإنصافهم بإنشاء دولتهم المستقلة، فتاريخيا لم يسبق لأي دولة صحراوية أن وجدت في تلك المنطقة، ولقد كانت المنطقة عبر تاريخها جزءا من الدولة المغربية. الهدف من المشروع الجزائري هو تقزيم المغرب، بغرض فرض زعامة على الإقليم، لكي تصبح الجزائر هي القوة الضاربة والرائدة فيه، لوحدها، وتصبح باقي الدول الأخرى المجاورة لها، مجرد ظلالٍ لها.
ولا شك في أن هذا مشروع خطير، قد يرتدُّ على الجزائر نفسها، فالتقسيم في المغرب، إذا جرى ونُفّذ، سيكون منطلقا لتقسيم الجزائر ذاتها، وربما حتى موريتانيا، وتونس، وليبيا، وها هي أمامنا حركة الماك الموجودة في فرنسا والتي تدعو لاستقلال منطقة القبايل. فإذن مواقف الجزائر هي التي (مواقف تشنج وتصعيد، وليست مواقف عقلانية، ولا مواقف الحسابات الاستراتيجية)، فهذه المواصفات تنطبق على السياسة الخارجية الجزائرية، وليس على المغرب، كما ألصقها بها فؤاد عبد المومني….
ومن هنا يصبح حديثه عما يسميه (الهوس المغربي على الإنفاق العسكري والدبلوماسي والاستثماري غير المنتج في الصحراء)، يصبح حديثا فيه بعض المغالاة، ويخلق الانطباع عند الخصوم أن المغرب بدأ يشعر بالسأم والتعب في تمسكه بوحدته الترابية، علما بأن المشروع التقسيمي الذي يتصدى له المغرب في الأقاليم الصحراوية، مشروع خطير جدا، ليس على المغرب لوحده وإنما على عموم المنطقة، ولذلك تجد أن المغاربة مستعدون للإنفاق على إفشاله، مهما يكن حجم التضحيات المطلوبة. ومهما يكن فإن ما ينفقه المغرب دفاعا عن وحدته الترابية يكاد لا يساوي شيئا مقابل ما تنفقه الجزائر عسكريا، ودبلوماسيا، وتجاريا لنزع الأقاليم الصحراوية من المغاربة.
لقد صدرت عن العاهل المغربي مبادرات عديدة من أجل حلِّ مشكل الصحراء، وأعرب محمد السادس عن استعداده لمناقشة جميع الملفات العالقة بين البلدين، ولكن الجهة الأخرى ظلت تقابل اليد المغربية الممدودة بالصد والرفض، ولا تقبل أي صيغة للتصالح والتوافق من أجل بناء المغرب العربي الكبير، فليست مواقف المغرب هي المتشنجة وغير العقلانية، ولا تقيم وزنا للحسابات الاستراتيجية، المغرب يدافع عن أرضه، والذي يهاجمه هو الذي يتحمل المسؤولية التاريخية عن المأزق الذي تتخبط فيه المنطقة المغاربية.
أخطاء كثيرة ارتكبها المغرب في كيفية استرجاعه لصحرائه الغربية، وإدارة الصراع فيها، ولكنها أخطاء لم يتم التطرق إليها في الحوار المشار إليه أعلاه، فالحديث عن غياب الديمقراطية في إدارة ملف الوحدة الترابية المغربية، لا يجوز أن يكون حجة على المغرب في التمسك بأرضه، ينبغي أن يكون هذا الغياب حجة على الذين يريدون تقسيمه لإنشاء دولة قزمية أخرى في المنطقة. فكما يقول العبقري غسان كنفاني، إذا كانت قضيتنا عادلة وكنا نحن الذين ندافع عنها فاشلين، فالمطلوب هو تغيير المدافعين الفاشلين عنها وليس التخلي عن القضية.
الهدف من إقرار الديمقراطية الفعلية في بلدنا يتعين أن يكون هو مراقبة الأموال التي تُخصَّصُ للإنفاق في الصحراء، لتجويد إنفاقها، حتى لا يقع نهبها وصرفها في غير محلها، والغرض من الديمقراطية هو وضع الرجال والنساء المناسبين والمناسبات في الأماكن المناسبة حتى يجيدوا مهمة الدفاع عن صحرائنا، ويصرون على عدم اتخاذ القرارات المرتبطة بها إلا بعد التشاور والدراسة المتأنية، وألا تكون قرارات فردية وارتجالية وعشوائية، وأن يتم إشراك الشعب في الدفاع عن صحرائه، بوضعه في صورة الحقائق كما هي على الأرض، وأن يتمَّ القطع مع الريع، ومع زواج المال بالسلطة، والتخلي عن الطقوس المخزنية…
الحاجة إلى الديمقراطية حاجة ماسة لكل المغاربة، والنضال من أجل إقرارها لا ينبغي أن يُقرن بالرغبة في استرضاء الغرب بواسطتها، لكي يعترف للمغاربة بصحرائهم، الرهان في هذا الاتجاه رهان فاشل وخاطئ، نحن نريد الديمقراطية لأنها حقٌّ إنساني ويتعين أن نمارسها، ككل الشعوب التي تنعم بها، ولذلك فإن النضال من أجلها يظل، مهمة ملقاة على عاتق كل مغربي، في كل بقعة من بقاع المغرب، سواء كان المغربي، صحراويا، أو ريفيا، أو شاويا، أو غرباويا، أو جبليا… ومن غير المقبول أن يكون غياب الديمقراطية مبررا لتزكية أو تبرير النزعة الانفصالية لدى أي واحدٍ من المغاربة، وفي أي جهة من المغرب.
مهما كان خلافنا، ونزاعنا، وحتى صراعنا مع الدولة التي تحكمنا، فالمتعين هو أن تكون مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، لأن الوطن أكبر منا جميعنا، خصوصا عندما يكون الوطن في مواجهة مشكلة، كما قال عنها الفقيه أحمد الريسوني: إنها صناعة استعمارية.