أنْسَنَةُ النِّساء

أنْسَنَةُ النِّساء

نجيب علي العطار

تختلفُ الآراء، وتتباينُ وجهات النظر، حول قضايا “حقوق المرأة” بصورةٍ تتبدّل بين السرياليّة مرّة، والعبثيّة مرّات، وتضيعُ معها حقوق النسوَةِ وآلامِهنّ بين الدعوة والدِعاية. ولا غرابةَ أن تذهبَ “نضالاتُهنَّ” سدًى، إذ أنّ بعضًا من المشكلةِ يكمنُ في الطرحِ ذاتِه، حيثُ يبدو للوهلةِ الأولى، أنّ “المرأة” هي نوعٌ آخر من الموجودات يختلفُ عن النوع البشري، فتختلفُ بذلك حقوق النسوةِ عن حقوق الإنسان. ولا غرابةَ أيضًا أن تحظى القضايا النسويّة، في مجتمعاتِنا، بهذا النصيب من التعاطف و”النضال” إذ أنّ أرشيف الواقع النسَوي، إن جاز التعبير، يحكي قصّة مأساةٍ حقيقيّة عاشتْها المرأةُ ولم تزل تعيشُها بصورٍ مُقنّعةٍ تتماهى فيها الفوارقُ، بصورةٍ لاعلميّة، بين العدل والمساواة. ولعلّ ما يُميّز معاناة المرأة عن سواها هو أنّها معاناةٌ مزدوجة؛ فهي تُعاني من حيثُ هي امرأة، ومن حيثُ هي إنسانة، على أنّ المعاناة تبلغُ ذروتَها حين نقرّرُ أنّه ثمّة فارقٌ بين هاتين المعاناتَين.

   إنّ هذه الصورة المرسومةِ بأبشعِ ألوان السخريّة المُرّة تتجلّى أكثر ما تتجلّى في قضيّة حقوق المرأة في الإسلام والتي تبدو بصورةٍ ما كأنّها صراعٌ بين الله والمرأة. فمراقبة الصورة العامّة للصراع الدائر في هذا الرُكنِ من الصراعات ذات الخلفيّة الدينيّة يوحي بأنّ الإسلام شرّع من “الأحكام” ما من شأنِه أن يُقدّسَ القيودَ المجتمعيّة على المرأة ويزيدَها قيودًا أكثرَ قداسةً وأكثرَ مرونةً وقُدرةً على تحويل المرأةِ من “إنسان” إلى “كائنٍ حيّ” ثم إلى “آلةِ إشباعٍ حيّة” لا تعملُ إلّا في نطاق المنزل الذي يُمثّلُ مسرحًا لمهمّة إشباع رغبات “الرجل” وما يتفرّعُ عنها ويتولّدُ منها.

   لقد أثارَ مقتلُ الفتاة الإيرانيّة “مهسا أميني” قضيةً لا تحتاجُ في واقع الأمر إلى إثارة، إذ أنّها لم تهدأْ يومًا. فقضيّة “الحجاب” في الإسلام لم تزل من أكثر القضايا قدرةً على إثارةِ الجدل في مشهديّة الصراع القائم بين الفهم السلفي للإسلام من جبهة، ومحاولات الفهم الجديد من جبهة أخرى. إنّ الجدال الفقهي، أو الشرعي، حول قضيّة الحجاب لا يحملُ كبيرَ منفعةٍ تُرجى لحل هذه المشكلة، إذ أنّ السؤال الواجب طرحُه كمقدّمة للتفكير ليس “هل يوجبُ الشرعُ الإسلامي على المرأة ارتداء الحجاب؟”، هذا إذا تجاوزنا الخلاف القائم على مفهوم الحجاب. إنّما السؤال الأكثرُ إلحاحًا ونفعًا هو “هل يحقُّ للسلطات الدينيّة أن تفرضَ الحجاب على النساء وتُكرهُهُنّ على ارتدائه وِفق ما تراهُ مصداقًا لمفهوم الحجاب؟”، هذا إن سلّمنا بمبرّرات وجود السلطة الدينيّة أصلًا. إنّ قضيّة الحجاب ليستْ قضيّةً فقهيّة بقدر ما هي قضيّة إنسانيّة تقعُ تحت عنوان الصراع من أجل تحقيق الحُريّة، وهنا تشتركُ النساء مع الرجال في المُعاناة، فالمشكلةُ إذًا، بل الجريمة، ليستْ في ذاتِ الحجاب وإنّما في الإكراه عليه.

   وممّا يزيدُ الأزمةَ تأزُّمًا هو اعتبارُ الحجاب معيارًا تديُّنيًّا أو تحضُّريًّا، إذا جاز التعبيران. وهنا يلتقي المتديّنُ المُتطرّف مع اللامتديّن المتطرّف في أتعسِ صورةٍ للإلتقاء؛ فالأوّل يعتبر الحجاب مِعيارًا للتديُّن، والثاني يرى في نزعِ الحجاب معيارًا للتحضّر والرُقيّ، وفي كِلا المعيارَين إمعانٌ في احتقار الدين والتحضّر والمرأة على حدٍّ سواء. فارتداءُ المرأةِ للحجاب أو نزعِها إيّاهُ ليس له أيُّ مدلولٍ سوى المدلول البصري، إن جاز الاصطلاح، أي أنّ ارتداء المرأة للحجاب يعني أنّها تُغطّي رأسَها بقطعة قماش فقط لا غير.

   إنّ اختزال حقوق المرأةِ، و”تحريرِها”، بقطعةٍ من القماش تُغطّي رأسَها يعني مزيدًا من الإحتقار لها. فما يجبُ أن يوجَّهَ النضال نحوَه هو تحريرُ المرأة من العبوديّة التي تعيشُها كفردٍ من النوع البشري؛ العبوديّة التي يمّحي أمامَها الفارقُ الجندري. وهذا لا يكون إلّا بـ “أنسَنَةِ النساء” حين نمحو الفارق بين “المرأة” و”الإنسان“.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

نجيب علي العطار

كاتب لبناني