تحولات المثقف في الزمن الرقمي  

تحولات المثقف في الزمن الرقمي  

باريس- المعطي قبال    

يشغل المثقف الفرنسي اليوم مساحات رحبة في الإعلام  بمختلف أصنافه وانتماءاته وهذا الموقع مكن البعض بابداء الرأي أو الافتاء في كل المواضيع سواء تلك التي تدخل في ميدان تخصصه أو التي سمع عنها أو قرأ في مواضيعها. وقد وصل أن تحول المثقف في بعض الأحيان إلى معلق وشارح للوقائع والأحداث اليومية بدل أن يلعب دوره كمثقف من مهامه الرئيسية هي خلق التباعد بينه وبين هذه الأحداث واستعمال العقل لفهم منطقها الداخلي. في ظل التحولات السريعة التي اكتسبتها الصورة، وفي ظل الوثبة الرقمية التي عرفتها شبكات التواصل الاجتماعي وسلطتها الضاغطة، يطرح السؤال التالي: أي دور للمثقف وهل يمكن لهذا الأخير أن يصنع الحدث ويبتكر الأفكار كما عهدناه من قبل في بلد ديكارت؟ عن هذه الأسئلة وغيرها يقدم أوجينيه باستيي، في كتابه «حرب الأفكار. تحقيق من قلب النخبة الفرنسية»، الصادر عن منشورات روبير لافون، مقاربة دقيقة يسندها تحقيق دام لمدة لثلاثة سنوات داخل النخبة الفرنسية. ويشير المؤلف بأن فرنسا هي البلد الوحيد الذي يشكل فيه المثقفون طبقة خاصة. ويستشهد الكاتب بريجيس دوبريه الذي يرى أن السلطة الثقافية، أي القدرة على التأثير على المجتمع ، انتقلت من أيدي القساوسة إلى أيدي الأساتذة ثم الكتاب وأخيرا الصحافيين. في عصر التويت، اللايك والفولوي، هل يمكن للمثقف أن يلعب دورا ما؟

لكن قبل ذلك وجب طرح السؤال: من هو المثقف؟ نظريا، المثقف هو من يتخلى عن تخصصه للتدخل في شؤون المدينة وبالتالي لا يمكن حصره أو تقليصه في المجال الضيق الذي يمارسه الأكاديميون. كل العلماء ليسوا بمثقفين وكل المثقفين ليسوا بجامعيين. وسبق للفيلسوف جان بول سارتر أن أشار في كتابه «دفاعا عن المثقفين»  إلى أن «المثقف إنسان يهتم بما لا يعنيه». الكاتب يحتل موقعا في زمانه وما يقوله ويدلي به له وقع مؤثر. كما أن لصمته أيضا وقع. هذا التصور للمثقف، من فولتير إلى سارتر مرورا ببول نيزان، هو الذي فرض سيادته لمدة طويلة في وسط اليسار. هذا التصور بدأ اليوم في فقدان نجاعته بسبب منافسة الأخصائي في منصات التليفيزيون، المثقف العام أو العمومي الذي يتقن فن التلاخيص والخلاصات.

هذه العينة لم تعد تشكل الأغلبية ضمن اليسار. هناك تصور أخر للمثقف أطلق عليه ميشال فوكو تسمية «المثقف الخصوصي» «المعارض للمثقف التنبؤي». أن تكون مثقفا معناه أن تكون وعيا لكل الناس». منذ الثورة الفرنسية فاليسار هو من فكر في دور المثقف، أما اليمين فتبرم من ذلك إما بسبب واقعيته وقرفه من التجريدات  وإما بسبب رفضه للأدب الملتزم. هذا لا يعني أن اليمين لا يتوفر على مفكرين محسوبين عليه: فمن المناهضين للثورة إلى اللامحافظين لسنوات 1930 مرورا بحركة النشاط الفرنسي والليبراليين الكبار للقرن التاسع عشر، أنتج اليمين حركة خصيبة ومناهضة للأيديولوجيات اليسارية. على الرغم من ذلك ثمة صورة لمثقف ملتزم وهو شارل بيغي. خريج مدرسة المعلمين، الناقد الشرس لـ «حزب المثقف» ذاك الذي يبسط هيمنته بجامعة السوربون ويطور فكره على صفحات دفاتر لاكانزين ، والذي كان يعقب على الأخبار تبعا لمقولته: «يجب دائما أن نقول ما نراه، وتحديدا يجب دائما وهذا هو الصعب، رؤية ما نراه».

بالنسبة لبيغي، المثقف الحقيقي هو الذي يفكر في الحاضر ويرفض عقلية النظام. هذا التصور للمثقف هو الذي سيتبناه رايمون أرون الذي سيعرف بالمثقف على أنه «متفرج ملتزم» مع مؤاخذته لسارتر الذي خلط في نظره بين الخير والحقيقة. تتعايش اليوم هذه الوجوه الثلاثة: المثقف السارتري (المثقف الملتزم)، الفوكولدي (المثقف الخاص) والبيغي-الآروني (المثقف الآني) تتعايش في النقاش العمومي. سواء على مستوى توقيع العرائض، التدخل على القنوات أو التدخل في الجامعة، فإن المثقف يتدخل دائما في النقاش الفكري. تبقى معرفة هل لا يزال لكلامه وقع ووزن ما. فالمواضيع التي يتحدث فيها عديدة ومتنوعة: من الأزمة  الاقتصادية إلى الأوبئة مرورا بالهجمات الإرهابية والحركات النسوية والشعبوية وتفاقم مشاكل الهجرة، سياسات الهوية…

في وقت ما دار الحديث عن «نهاية التاريخ» وانسحاب المثقف من مسرح الأحداث، إلا أن  2001 مع انفجارات ناطحات السحاب سجلت نقطة تحول في مجرى التاريخ مع عودة النقاش الفكري وعودة المثقف إلى الواجهة. وأصبحنا نسمع كلاما من قبيل أن الماضي كان أحسن بكثير من الحاضر. هذا الكلام لا نسمعه فقط في أفواه الانهياريين المنتمين إلى اليمين، بل أيضا في أفواه الجامعيين المنتمين لليسار الذين يأسفون على اندحار الحياة الفكرية التي تحولت إلى آلة للتصادم تحت سلطة التقاطب. ما يلاحظ عموما هو انبثاق للعنف وتهديد للتعددية. لا بسبب غياب أفكار مغايرة ومختلفة بل بسبب قبلية المثقفين. هل نجحت أفكار اليمين في بسط هيمنتها على الثقافة لا في فرنسا وحسب بل وفي مجموع أوروبا؟

ليس ذلك بمؤكد، فجيوب المقاومة لا تزال نشيطة في أكثر من مجال وتفرض نفسها في ميادين الأدب، الفلسفة، السينما، الإبداع التشكيلي وهذا يحد من رغبة الهيمنة التي تسعى قوى اليمين إلى فرضها.

Visited 13 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".