أبو سعدية والنسوية الإسلامية (4/2)
لحسن أوزين
ثانيا : سؤال العبودية في التاريخ الإسلامي
في الوقت الذي اعتقدت فيه أنني قدمت بعض الأفكار حول أسئلة أبي سعدية إذا به يفاجئني بنص هام، حيث كان منهمكا، وهو يتابع مغامرة ومخاطرة الكتابة التي زعمت إنجازها، في أخذ رؤوس أقلام، أو كما نقول يسجل مساميرا للذاكرة. كانت سخريته لاذعة حين قال بأنني خسرت المعركة أمام الذكورة الصراطية، وهو يتهمني بأبشع الأوصاف لأنني كنت انتقائيا في اختيار النصوص والأفكار والمواقف والدلالات، وفق استراتيجية للكتابة هي ذكورية بامتياز كبير. وموجهة بمنطلقات لا تخلو من تكريس السائد، لأني لم أقو على اقتحام المسكوت عنه، وتسليط الضوء على كل الوجوه المعتمة للمفارقة الكامنة في التاريخ الاجتماعي العربي الإسلامي، بين الواقع الحي ومتخيل مثالية الفكر. وإلا فما السر في الخوف العميق الذي حال دون وضع النقاط على الحروف؟
لم توضح للقارئ بعض المصطلحات مما قد يخلق عنده التباسات خطيرة تؤدي إلى مغالطات تاريخية. كما قد تسدل الستار على التمفصلات التاريخية والثقافية والسياسية والدينية، بين الأبعاد البنيوية والوظيفية لتفاعلات السلطة والمقدس والجنس والحقيقة. وإلا لماذا تجاهلت ما يعنيه لفظ الحرة؟
“تعني لفظة الحرة المرأة التي تتوفر على حريتها مقابل الأمة، وكانت الحرة في الحريم تعني الزوجة الشرعية التي تنحدر غالبا من أصل أرستقراطي، وذلك عكس الجارية التي كانت تشترى من طرف السيد في أسواق النخاسة. يجب التذكير هنا بأن لا علاقة للفظة حر وحرية في القاموس العربي بالدلالة الحافة الحديثة التي ترتبط بحقوق الانسان. إن الحرية لا تتجذر لدينا في ذاكرة من المطالب والصراع من اجل تحرر الفرد واستقلاله. انها نقيض العبودية، وحين ينطق طفل فرنسي لفظة الحرية تحضر في ذهنه مسيرات الشعب ونضالاته في ازقة باريس 1789، التي طالما كررها المعلم على مسامعه. وحين ينطق طفل عربي نفس الكلمة يتناهى الى ذاكرته بدخ الارستقراطية العباسية في عصرها الذهبي الذي يحلم به معلمونا على الدوام. ذلك أن العرب لم يتوفروا قط على الحق في ذلك العدد الهائل من الجواري الجميلات اللائي كانت تزخر به أزقة بغداد “. 1
لم تعر هذا التوضيح أدنى اهتمام بسبب الوهم المفرط الذي تلبسك وانت تتذكر مسيرات “الربيع العربي” وهي ترفع شعارات الحرية والكرامة والديمقراطية. وقلت في نفسك باننا يمكن ان نتكلم عن الحرية، بدون عقدة النقص التاريخية التي رافقت حركة تطور السيرورة التاريخية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية. وحتى لو قبل منك هذا الفهم القاصر، والوعي المحدود والتقدير غير الدقيق والخاطئ، والبعيد عن الموضوعية التاريخية والاجتماعية والسياسية والفكرية الثقافية للمعنى الحديث للحرية، فماذا يمكن ان تقول عن نقيضها \ العبودية \ المقبول جزئيا او كليا بشرع المقدس المؤسس للسلطة والحقيقة في خصي وبيع الرجال، والتمتع بجنس وسوق تجارة النساء “ملك اليمين”؟ ألم تقف طويلا عند لفظة النخاسة، وأنت تفكر في هذا الموروث الثقافي والديني الموبوء، الذي يحاول البعض، فيه ومن خلال، الجمع بينه وبين النسوية، كفكر نقيض، ورؤية للعالم بديلة عن سطوة مقدس الذكورة؟
والسؤال أو الأسئلة التي لا تكف عن دق الأجراس ماتزال تطرح نفسها بإلحاح. ما الذي جعلك تخرس عن الكتابة حول العبودية في الإسلام؟هل هي\العبودية\ بمثابة القشة التي يمكن أن تهدم المعبد بمن فيه وما فيه؟ وإلا لماذا أطلت الوقوف أمام فتوى ابن عربي وهو ينفي المنظور الفقهي لجسد المرأة بوصفه “عورة” وأنت تتأمل رأي الدكتور محيي الدين الصافي عميد كلية أصول الدين جامعة الازهر “الفتوى تخالف القول السائد بأن عورة المرأة هي جسمها كله ما عدا الوجه والكفين إذا كانت “حرة”، أما الجارية أي “المملوكة” فعورتها مثل الرجل من فوق الركبة الى تحت السرة” ولا حظ في أي عصر يتردد الكلام!”. 2
لقد كنت عاجزا عن قول الحقيقة عن الذات، ولم تمتلك شرطها الأساسي: الشجاعة. ولم يكن هناك شيء عظيم تخاف خسرانه إلا عبودية نفسية تشد الأعماق‘ عبودية رمزية وفكرية ثقافية مقدسة تضغط على القلب والعقل. و تحول بينك وبين ان تكون انسانا حقيقيا يمتلك حريته، وتنتصر على ثقافة الخوف القهرية، الأقرب الى الوسواس القهري. لم تحاول على الأقل اخراج ما يغلي في داخلك، فكلما قرأت شيئا عن حقوق المرأة في الإسلام، فإن “ملك اليمين، الأمة، الجارية…”، كانت تحضر بقوة وتفرض تساؤلاتها الشرسة التي تجعلك عاريا امام الحقيقة. وتحاول بشتى الوسائل الدفاعية المرضية الهروب من عورتك النفسية والفكرية الثقافية، والدينية، التي تتجاوز في شدتها وحدتها وعنفها الداخلي، كعدوانية اضطرابية مقبلة على تدمير بعد النوع الإنساني فيك، وفي المرأة. وترفض بمنطق ثقافة قداسة الخوف والجهل ان تنظر الى عورتك هذه التي لا تتطلب الحجب والستر والنقاب الذي أنت ممعن في التحصن داخل رجولته وذكورته، نفسيا وفكريا، وثقافيا، خوفا من بصمة الكفر أو الذكورة المنبوذة. فلا شيء يعصمك اليوم أو غدا من طوفان حرقة أسئلة العقل النقدي. ألم تكن تشعر بأرضية حقوق المرأة في الإسلام، والنسوية الإسلامية، تمور امام ” ملك اليمين، الأمة، العبودية والاسترقاق” وكل انواع الحق الشرعي في التمتع بالجواري، والمرأة الحرة للارستقراطية المسلمة والاسلامية. كانت الأسئلة تتلاحق كيف أصبحن جواري؟ ومن حرمهن من حق الحرية وأن يكن حرات؟ كيف يمكن لعنف الغزو ان يكون شرعا، وشرعيا، ومقدسا؟ وهل الله حقا يبارك هذا السبي أو الصيد الحلال في حق الانسان فيباع ويشترى ويستغل ويستعبد ويغتصب ويكره على الجنس…؟ وأنت لا تستطيع على الأقل أن تقول كما قال إبراهيم “هذا ليس ربي”.
أنت الإنسان الضعيف الذي لا يملك القدرة الكلية لا تقبل بشرعية هذا الصيد الحلال، فكيف يمكن للإله ان يقبل به؟ كانت الصور تتداعى على شاشة الذاكرة بعنف استفزازي لحركة الضمير العقلي محرضة فيك قوة الايمان الحقيقية بحرية وقيمة وحصانة الكرامة الإنسانية للإنسان امرأة كانت أو رجلا. ما أروع بعد المعاناة القاسية والطواف الشاق في دروب حرقة الأسئلة أن تعيش مخاض الولادة من جديد. وتتخلص نهائيا كما تطمح من رداء قداسة ثقافة ومنطق الخوف، والجهل للذكورة الصراطية والايمان الكاذب.
خدعت نفسك والقارئ ولم تنصت بجرأة حقيقية لما يعتمل في أعماقك وتكون في مستوى التحدي الذي تطرحه أسئلة أبو سعدية وهي تدق الأجراس لمن يفكر في الجمع بالمجاورة، تطابقا أو توافقا، بين النسوية ونصوص الدين. ان الامر يتعلق بسؤال العبودية في الإسلام بوجوهها المختلفة وبأشكالها المتعددة، من صور الاستعباد والقهر والقمع والهدر، ومن الخصي الى حكم القضاء بتطليق الرجل من زوجته، كما حدث مع الانسان الشهم نصر حامد أبوزيد، المفكر الحر في توسيع المعنى والدلالة والمغزى وإدراك بُعد سياقات الآيات القرآنية في السرد والوصف، والسجال، ووحل التاريخ الأرضي، ووعي الصيرورة في الخلق “تلك امة قذ خلت”.
وإلا لماذا مررت مرور الجبناء على التساؤل الملح الذي طرحته فاطمة المرنيسي؟ “وفي منتصف القرن الثامن عشر سنجد مسلما يكتب بيانا يضمنه وصفات لفحص الرقيق وتجنب السقوط في شرك النخاسين عنون \ لفت الله الغزالي \ وهو أحد رعايا مصر العثمانية بحثه بعنوان يوحي بشدة التقوى “هداية المريد في تقليب العبيد” وبما ان حدود الامبراطورية الاسلامية قد رسمت منذ عهد هارون الرشيد وانها لم تعد فاتحة بعد ذلك، بل غدت هي عرضة للغزو، فإن بإمكاننا ان نتساءل لماذا لم تنظم السلطات الدينية حملات ضد العبودية وهي المهتمة بالإسلام والدفاع عن مبادئه الأساسية؟ إنه سؤال لا مناص من طرحه اليوم او غدا” . 3
وربما قد تكون قصة هذا الملك الإفريقي أبوسعدية من صميم هذا التاريخ الذي جعل الامام الشافعي يستنبط من الحديث النبوي “العبد وما ملك مُّلك للمشتري إلا ان يشترط البائع” عدم توريث العبيد متجاهلا ان النبي لم يكن يضع تشريعا دينيا بقدر ما يقرر قانونا سائدا في السوق”.
من المهم أن نلاحظ هنا ان استنباط الشافعي للحكم السالف يخالف مبدأ “المساواة” الذي أقره الإسلام بين الاحرار والعبيد على مستوى الاحكام الدينية… ونلاحظ من جهة أخرى انه استنباط يؤدي الى تثبيت قوائم النظام العبودي بإعطائه أحكاما لها قوة التشريع الديني النابع من الوحي المباشر”.4
فلماذا نحيت السؤال جانبا خوفا من حدود ومحدودية مفهوم تكريم الانسان في تراث مقدسك التليد؟ هكذا وقعت في فخ الذكورة الصراطية للاسلام التاريخي الذي كان يقوم بخصي الرجال حقيقة ومجازا، والمتاجرة ليس فقط بأجساد النساء دعارة وبغاء وفحشا، بل ايضا مسخ انسانية الانسان بالتحايل شرعا على الافاق الواقعية والدلالية للآيات القرآنية التي كانت تصارع لغة ووعيا في التأسيس لمضمون جديد للذكورة اي للغة جديدة ووعي جديد. وهذا ما تجلى في مساواة الحضور في القران “وقد حدث في تاريخ اللغة العربية الذي هو تاريخ الجماعة المتحدثة بها وعي متميز تمثل في لغة القران التي خاطبت النساء كما خاطبت الرجال بعد ان كان خطاب النساء يتم بطريقة غير مباشرة من خلال خطاب الرجال”. 5
لكن ما الذي جعلك تلوذ بالصمت وتسقط صريعا في “دوائر الخوف”(كتاب أبو زيد) دون ان تقول كلمة حق حول أستاذك الجريء والمجتهد الصبور نصر حامد أبوزيد الذي تحدى الذكورة العنصرية الطائفية في قول الحقيقة، وقد عبر عن ممارسته الشجاعة لواجب الاجتهاد حيث “لا سقف ولا حدود ولا شروط تعوق الحق بل واجب الاجتهاد سوى التمكن المعرفي اي العلم بشروط وأدوات المعرفة والتمرس بأدوات البحث ومناهجه حسب المواصفات التي وصل اليها التقدم المعرفي المعاصر”. 6؟
ألم تعترف على الأقل مع نفسك بروعة الكتاب، وأنت تكتشف منظورا نقديا جديدا متعدد الوجوه والزوايا والأبعاد. ليس فقط في تناول قضية المرأة وفضح الخلفية السياسية والاجتماعية والثقافية للذكورة الصراطية التي تتستر وراء الخطاب الديني. وهي تمارس أبشع الاعتداءات في حق المعتقد الديني بعد أن ضيقت الخناق على المسلمين، وخنقت أمل القران الكريم في احتضان الافاق الدلالية الموعودة في سياق تطور المجتمعات، بل ايضا على مستوى السؤال النقدي والصياغة الفلسفية الفكرية، بمضمون نقدي لنوعية الاسئلة المولدة للفكر، كفعالية مادية منتجة للوعي النقدي والممارسة الاجتماعية والسياسية النقيضة؟
وكما حدث في أزمة المدينة أيام النبي من التفاف على المضمون الجديد للذكورة، حيث طرحت بإلحاح قضية النساء والحجاب نلاحظ ان نصر حامد أبوزيد يطرح تساؤلات نوعية ببعد نقدي حازم يفتح العيون ويحرك العقل، “والسؤال الذي لم يتطرق إليه أحد بشكل مباشر هو لماذا حين يصبح الركود والتخلف من سمات الواقع الاجتماعي والفكري يصبح وضع المرأة قضية ملحة ؟”. 7
ولتوضيح هذا الواقع الاجتماعي السياسي الغائب في النصوص الدينية، وفي الخطاب الديني يبتعد أبو زيد عن الحضور المفلس للسجال الايديولوجي المعتمد على النصوص الدينية، باعتبار ذلك طرحا دينيا وأخلاقيا، ليس فقط مغلوطا لقضية المرأة وللمضمون الجديد للذكورة، بل هو طرح طائفي عنصري تفتيتي “وليس هذا الترابط الذي نقيمه بين قضية المرأة وقضايا التفتت الاجتماعي بصفة عامة ترابطا تصوريا ذهنيا، فالخطاب الديني الذي يلح على قضية المرأة هو ذاته الذي يلح على قضية وضع الاقليات الدينية في النظام الاسلامي الذي يسعى الخطاب الديني لإقامته… وبعبارة أخرى يمكن القول ان تحول الخطاب الى خطاب ديني سواء كان معتدلا او متطرفا يعد هو في حد ذاته علامة من علامات الانكسار”.8
الهوامش
1 فاطمة المرنيسي، سلطانات منسيات، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل- المركز الثقافي العربي – ط1،س2000. ص17
2 نصر حامد أبوزيد، “دوائر الخوف” قراءة في خطاب المرأة، المركز الثقافي العربي- ط2،س2000- ص239
3 فاطمة المرنيسي، سلطانات منسيات- ص 92
4 نصر حامد أبوزيد، دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة، المركز الثقافي العربي – ط2س- 2000- ص302
5 نفسه ص 36
5 نفسه ص 8
7 نفسه ص 89
<
p style=”text-align: justify;”>8 نفسه ص 91 و92