ليْتَ هذا العَام الجَدِيد يَأتي بالضِّيَاء 

ليْتَ هذا العَام الجَدِيد يَأتي بالضِّيَاء 

 د.  محمّد محمّد الخطّابي  

       حال  الحول ودار الزمان، وها نحن نواري العام المنصرم، وتتوارى معه أحزاننا وأتراحنا وبعض أفراحنا ومآسينا، وها نحن نستقبل في ذات الوقت عاماً جديداً لا زالت أيامه ولياليه في طيّ الكتمان والمجهول، سترى الوجوه وهي باشّة هاشّة  ضاحكة، وترى القلوب وهي تخفق سعادة وهناءة وحبوراً، وتلمع الأيدي وهي تمتدّ في شجون نحو أخرى لتصافحها مهنّئة إيّاها بانسياب حقبة من الزمان وزوالها وقدوم أخرى.   

          كلّ المدن والحواضرالكبرى  ستسبح في ثبج فضاء أثيري بهيج، وأضواء النيّون ستنتشر في كل مكان، وسوف يستمرّ الظلام الدامس مطبقاً في أماكن أخرى، الكثيرون منّا يجهلونها، القليلون منا يعرفونها.. ستعاقر الكؤوس بعضها بعضاً، ستنفرج الأشداق من القهقهات، وتزيغ العيون، وتتيه العقول، والكلّ ينتظر ساعة الصفر، الكلّ يرقب منتصف الليل، حيث تنطفئ الأضواء في كلّ مكان، ويكون العناق تلو العناق الصادق الزائف. والدافئ الزائد منه يتحوّل الى نار كاوية، وتدور الأكواب والصّحون وتمتلئ البطون بالطعام المزّ، والشّراب المرّ، والحديث ذو شجون، يفرحون، يمرحون، يصيحون ويهللون لهؤلاء الذين يلفهم البرد القارس الزمهرير، ويغطيهم الثلج الصقيع المتكاثف، ويمزّق أوصالهم الطوى، ويغلفهم البؤس، وتسكنهم الكآبة، هناك دائماً فائض هناك دائماً زيادة، هناك دائماً تضخّم، ولكن دائما ثمة بالمقابل عوَز وخصاصة وفاقة واحتياج، و قبضٌ من ريح، وحفنة من هشيم، و لفحة من برد لاسع، هناك كذلك شموع وقناديل على غرار شموع رأس السنة وقناديلها الخافتة، غير أنها تنقصها الزخارف والألوان، لا تخمة ولا فائض. 

       قديماً كانت الأسطورة تقول: إن البدائيين كانوا يبكون غياب الشمس، وينتحبون سدول الليل، ذلك أن الليل يسرق منهم الضياء والدفء، ويطويهم تحت جبّته العملاقة  الحالكة، ويبتلع كلَّ شئ.. والآن ترى الناس يهللون لمقدم الليل، ويضجرون من النهار، ذلك أن الليل ساكن هادئ حالم سماوى لا قيظ فيه ولا حرّ ولا قرّ، أين الحرّ والقرّ وهناك العديد من المدفآت والمراوح التى بمقدورهم التحكّم  في حرارتها أو بردها حسبما شاؤوا وأرادوا، إنهم محقّون في ذك لا ريب، النهار ليس لهم، إنه للكادحين العسفاء الذين يعملون في الحقول، والمصانع، والمقالع، والمعادن، والمعامل، أما الليل فهو ملك لهم. أفرأيت إذن كيف انقلبت الآية؟ أفرأيت الآن كيف انّ الناس يتشاءمون من غياب النهار وأفول الشمس ويهللون لمقدم الليل؟ 

 كان”شارل بودلير” يكره الليل، لأنه كان يشمّ فيه رائحة القبور، وهو معذور على كل حال، فهو فنان معنّى ومعذب لا يشاطر الناس شغفهم بالليل، إنه نقيضهم على آخر الخط، وهو يعي جيّداً ما يقوله ويعنيه في “أزهره  الشرّيرة”.  وهذا “طاغور”العظيم في “انتقام الطبيعة” نراه يؤكد أن انشطار الليل والنهار لايهمّه، ولا انقسام الشهور والاعوام، فعنده تيار الزمن قد توقف، يرقص الزمن على أمواجه، والقشّ والأغصان، هو وحيد في هذا الكهف المظلم، منغمر في نفسه، منهمك في ذاته، والليل  الأبدي ساكن كبحيرة جبل تخاف عمقها نفسه، الماء ينضح ويرشق ويقطر ويسيل من الشقوق الناتئة، وفي البرك  المستنقعة، والترع الآسنة تسبح الضفادع العتيقة، هو حبيس ينشد ترتيلة  اللاّشئ… إنه حرّ.  

الكل يصيح، ويرقص طرباً، ويضحك جذلا بفرحة العام الجديد، منتشياً ومغتسلا بغمرة (اقرأ بدل الغين خاء) انسياب الزمن وزواله واندثاره، فتنضح عنه أدران العام الآفل ومآسيه، ويستبشر بها خيراً في استقبال العهد القادم المهرول، ترى ماذا يحمل تحت جناحيْه وأعطافه، وماذا يخفي في طيّاته وثناياه، الكل  ينشد السعادة في عالم مشحون بالشقاء، البشرية ما زالت بخير، قلّت الحروب وهدأت وخبا أوارها ردحاً من الزمن ثمّ سرعان ما عادت إلى الاندلاع، ونمت واستشرت معها بالمقابل الفتن والقلاقل في مختلف أصقاع المعمور، إلاّ أنه  في أماكن بعينها  من العالم لابد ان تظل فيها رحى الحرب الممقوتة تدور بثقالها وثفالها الى أجل غير معلوم.. في تلك البقعة النائية من العالم حيث القوم الذين وُهموا بالنصر يحتسون نخب العام الجديد في جماجم بشرية، أنا وأنت وهو والآخرون يعرفون أين تقع هذه الأرض الطيبة الطاهرة.. إنها حيث يتسلل الصيادون بفخاخ البشر، وحشيتهم أحدّ من أنياب الذئاب، وكبرياؤهم أشدّ عمىٍ من الآجام المظلمة، لننسَ أو لنتناسى قليلاً.. هكذا يقولون كفانا تذمراً وتنمّراً وتنطّعا ًوشكوى، فلنعانق، ولنعاقر ولنحتف، ولنمح من ذاكرتنا كلَّ شئ ولو إلى حين، ولنجعل بيننا وبين الأحزان والأشجان برزخاً واسعاً  ويمّاً عميقا. الشاعر البدين (جسماً) والرقيق (إحساساً) الذى عندما  وضع يوماً عِمّته وجُبّته عن رأسه وبدنه وضع معهما كلّ همومه وأحزانه، وأتته الجرأة، وجهر بحقيقة الموقف الفادح، فقد صاح ذات يوم والخلاّن يمرحون ويصيحون مهنّئين إيّاه : كلّ سنة وأنت طيّب يا سّى كامل.. فصاح فيهم  صادحاً منشداً مغتمّاً، كئيباً حزينا:                                  

             عدتَ يا يوم مولدي   / عدتَ يا أيّها الشقيّ                             

             الصّبا ضاع من يدي  /  وغزا الشيبُ مفرقي            

      كامل الشناوي كان صادقاً مع نفسه ومع خلاّنه لحظة تقييمه ليوم مولده فقد خالف الناس في عُرفهم، إنّه يتوجّس من هذا اليوم خيفةً وهلعاً وروعاً ورهبة لأنه يعرف مدى فداحة الموقف بالنسبة له وللآخرين، فهو لم يخف وجهه في الرّمال كما فعل غيره، بل غنه رفع رأسه واشرأبّ بعنقه عاليا ليدين الزمن الذى يدور ويدور حتى يصادف في دورانه يوم أن زُجّ به في دهاليز هذا العالم المشحون بشتّى ضروب العنف والعنت والشقاء والمعاناة. ولئن قرن الكلام هنا بعيد ميلاد شخص، فذلك لأن له ارتباطاً وثيقاً به، وفيه معنى متقارب جدًا بالنسبة لانقضاء عام وقدوم آخر، هذا العام في الواقع هو بمثابة عيد ميلاد للبشرية جمعاء، ذلك أنهم يشتركون في الاحتفال والاحتفاء به جماعة في كل مكان، ففيه ترتفع الأهازيج، وتعلو أصوات الشدو والطرب والغناء والمواويل وآهات الفلامنكو المنكوب، وكل هذه المعاني صلتها أقرب إلى الألم والحزن والأسى والشجن منها إلى الفرح والمرح والسعادة والحبور، ومع ذلك تراهم يتمادون في لامبالاتهم، ويتظاهرون بانهم سعداء… وقد يكون صنيعهم هذا من باب الانتقام واغتنام الفرص وعملاً بنصيحة “الخياّم” في هذا القبيل: أن تمتّع بيومك قبل غدك، فمن أدراك أنك راء هذا الغد المجهول ومُدركُه. أو من باب:     

الماضي فات والمُؤمّل غيبٌ      /       ولك السّاعة التي أنت فيها                               

     إنه كلام يتناثر في الفضاء، تماما كما تناثر في القديم كلام من بنى في أخيلته مدنا فاضلة، وأقام فيها صروحا وقصورا ولكن ظلت العدالة فيها طائرا كسير الحناحين يحلق بالكاد حولها لا يشمّ سوى رائحة الظلم والعنت  في كل مكان، واليوم لم يعد ثمة أناس من هذا النوع، فقد أصبحوا في عرف الآخرين شبيهين بالمجانين الذين يفنون أعمارهم في الأوهام والخيالات والترّهات التي لا طائل تحتها. بل ربما كان هؤلاء هم الذين يعانون أكثر من غيرهم مختلف ضروب البؤس والتعاسة والحرمان ،بعد ان كسدت أسواق الفكر الخلاّق، ونشطت حركات التقاليع الرخيصة في دنيا الفنون والجنون والمجون من كل ضرب، ربما كان هؤلاء أكثر حظاً من أولئك في الحياة الرغدة. 

     البشرية غزا الشيبُ مفرقها كذلك مثل  شاعرنا المكلوم، وأضاعت عمرها في ويلات التقاتل والتطاحن والتشاكس والمواجهة والعداوة والبغضاء. لعلّ هذه الأمور تجعلنا نأسى ونتأسّى، وتبعث اللوعة والحزن والضنك في الأنفس، وظلم البشرية لا ينحصر في بني طينتها  وحسب، بل إنه يطول الطبيعة ومختلف الكائنات الحيّة المحيطة به  فالإنسان هو الوحيد في عالم الأحياء الذي يقتل فقط للاستمتاع واشباع رغبة الانتقام في نفسه الآمرة بالسوء، ومن ثمّ تلك المباريات المنظمة وغيرالمنظمة في عالم الصيد والقنص والطّرد، ألا تراه في هذه الأيام مسرعاً ومهرولاً في الشوارع والأزقة والدروب، وفوق البسيطة وتحتها، وفي الفضاء والبحار والصحارى والقفار؟ ولعلّك سمعت عن حركات الطيران غير العادية والبواخر والسيارات والقطارات وسواها من وسائل النقل في جميع أنحاء المعمور في هذه  التواريخ؟ فلو اطلعت على الأعداد الهائلة من المسافرين في هذه المناسبات لذهلت من الأرقام التي تنطق بها الاحصائيات في هذا القبيل. انهم يتسارعون على غير عادتهم، يقتنون الحاجيات  والمأكولات والهدايا بشره ونهم وبدون حساب، ويجلبون شجيرات الصنوبروالأرز الغضّة الطرية البريئة التي نحن في مسيس الحاجة اليها في هذا الطورالعصيب الذي تجتازه البلاد، وتماشياً مع سياسة المحافظة على البيئة وصون الغابات والمحميّات الطبيعية، بل نحن في حاجة اليها لنستمتع بظلالها، وبرونقها، وبهائها، وبساقتها، ونضارتها، وجمالها الخلاب. 

     كم أنت قاسٍ أيّها الانسان، كيف تسمح لنفسك؟ ويتمادى بك الغيّ والغرور لتتطاول وتتجنّى على الطبيعة  أمّنا الأولى، وتقتل وتقتلع بغطرسة وتجبّر تلك الشجيرات اليانعة اليافعة لتجعلها زينة وقتية في منزلك تغمرها بالباقات والبطاقات والاضواء والألوان، لتطوف حولها وأنت ثمل عديم الاحساس بها وبما وبمن حولها في لحظات كان أجدر بك  فيها  تعميق فكرك فيما يدور حولك وحول العالم من رزايا وأهوال وويلات .     

        الحضارة المعاصرة  تحمل إلينا عشرات المفاجآت كل يوم، فما كنّا نخاله  بالأمس خرافة أضحى اليوم حقيقة ماثلة  حيال أعيننا، وهكذا لم نعد نفرق  بين الأحداث  حتى أصبحنا نؤرّخ لها بالأعوام، فكما قال أجدادنا  ذاك عام الطوفان، وعام الفيل، وعام الهجرة، وعام المجاعة، وعام الفتح، أصبحنا نقول نحن اليوم عام اندلاع الحرب الكونية الأولى والثانية والثالثة في الطريق، والأعوام التي وضعت فيها الحروب أوزارها، وعام بلفور المشؤوم، وعام النكبة، وعام النكسة، وعام فضيحة واترغيت، وعام الصعود إلى القمر، وعام مهازل ويكيليكس، وعام الربيع العربي، وعام اندلاع حرب المواجهة المدمّرة بين روسيا وأوكرانيا، وعام وصول الفريق الوطني لكرة القدم المغربية للمربّع الذهبيّ في مونديال قطر الأخير الذي أذهل العالم وهو أجملهم!… الخ.  فهناك من السنين ما تنطبع أحداثها في أذهاننا ووجداننا ولا نجد لها أو منها فكاكاً، في حين أننا نمرّ بأعوام  أو تمرّ بنا أعوام لا نقيم لها وزنا ولا حساباً، وكأننا لم نعشها قط من أعمارنا، قيمة هذه الأعمار أو الأعوام اذن تكمن فيما نقدمه فيها أو خلالها من أعمال، وما نؤتيه فيها أو تأتينا به من مفاجآت.     

     عالمنا المعاصر أصبح اليومَ عالماً صغيراً ومحدوداً، هذا ما يقوله ويؤكّده مثلُ إيطالي سائر، ويردّده مثلٌ إسباني دارج آخر تتداوله، وتتناقله، وتلوكه الألسنُ كلّ يوم، لقد أصبح العالم فى حجم “منديل” الجيب الصّغير، ولكنّ مشاكله غدتْ مشاكلَ كبيرةً لا عدّ، ولا حدّ، ولا حصرلها. تُرى هل فتحتَ المذياعَ، أو رأيتَ المشوافَ، أو مررتَ بحسابات التواصل الاجتماعية هذه الأيام وسمعت حديثاً غير وباء كورونا أو كوفيد  اللعين الذي ملأ علينا حياتنا فى كلّ لحظة وحين، والذي ضاعف من “مكابدتنا” فى هذه الحياة الدنيا، لم تحمل إلينا هذه الوسائلُ جميعُها خلال الشهور الأخيرة خبراً سارّاً يُفرحُ القلبَ، ويُثلج الصّدر سوى الحديث عن الأمراض الفتّاكة، والإصابات المؤكّدة، والمعاناة الشديدة، والموت الزّؤام، والمشافي المُكتظّة، والعنايات المركّزة، والكمامات الواقية، والتباعد الجسدي، والحجْر الصحيّ، وغسل الأيدي والوجوه والألبسة والمأكولات من أيّ نوع بدون انقطاع.. نظراً لتفاقم هذا الوباء الهالك، والقاتل، الفاتك الذي انتشر بيننا إنتشارَ النّار فى الهشيم.. ولا من مُعالجٍ أو وَاقٍ، أو مُواسٍ، أو تطعيم فى الأفق؟ 

هذا غيض من فيض من الأخبار التي أصبحت تملأ حياتنا منذ ظهور هذا الوباء الخطير الذي يفتك بنا، وبأحبابنا، وأصدقائنا، ومعارفنا ،وأقربائنا، وذوينا، الذين أصبح يُزجّ بالعديد منهم فى عناكب الإنعاشات، أو يلحدونهم فى غياهب المقابر المجهولة التي لا نعرف ولا نسمع عنها شيئاً البتّة.. هذا الوباء الذي جعلنا نحثّ الخُطىَ، ونفرّ من أقرب وأحبّ الناس إلينا فرارنا من الأسد، لقد ملأت هذه الجائحة اللعينة حياتنا رعباً وفزعاً وهلعاً وقلقاً وريبة ورهبة وخوفاً مقيماً.. ومواكبةً مع هذه الآفة النازلة التي ألمّت بنا أمسىَ كلّ ما ينتهي إلينا من أخبار هذه الأيام كذلك هي ذات صلة بالفواجع الطبيعية، والحوادث المؤلمة، أو جرائم الإنسان، وويلات حروبه، وفتكه بأخيه الإنسان، ناهيك عن أخبار العنصرية المقيتة، والقتل، والتقتيل، والتقاتل الأرعن، وأخبارالمحاكم، والمظالم، والتعنّت والتنكيل، والحزازات، والمواجهات، والمناوشات، والمشاكسات، وتفاقم البِطالة، وتضخّم العَطَالة، وتصدّع الإقتصادات، وكساد التجارات، وتكاثر الفيضانات، والقحط والجفاف. 

هكذا كان حالُ عالمنا الكئيب خلال العام المنصرم،والحقيقة أنّ هذا العالم لم يَنْعَم قطّ بقسط من السّكينة والهدوء، بل إنّ ما يحدث هو من صميم الواقع الذي هو جزءٌ لا يتجزّأ منه، ولذا تصدق قولة أحد الفلاسفة القدامى القرطبي الحكيم (سِينِيكَا) الذي كان قد أعلن أنّ العالم لن يهدأ قطّ، وإنّ الحروبَ حتى إن هدأت، وخبا أوارُها فى بقعة مّا من بقاع العالم، فإنّها سرعان ما تثور، أو تثار، أو تندلع فى بقع أخرى منه. هذه حقيقة لا ينكرها أحد، ولكنّ هل تساءلتَ يوماً مّا عن سرّها..؟ إنك تظلّ عاجزاً عن معرفة هذا السرّ الغامض الذي لا يستطيع أحد أن يدلي فيه برأي. وأمّا ما يحدث من الفواجع الطبيعية، والكوارث البيئية على اختلاف أشكالها وألوانها فهو لا جَرَمَ من تدبير البشر نفسِه الذي تَمَادَى فى غيَه بإلحاق الضّرَر، والأذَى بأمّنا الطبيعة وإتلافها، بعدم الكفّ عن تلويث البيئة، وتدمير الغابات، وبتر الأدغال، وملأ الأجواء، والفضاءات بسخام، ويباب العوادم، وكبرى الصناعات.  

الإنسانُ هو المسؤول الأوّل كذلك عمّا ترتكبه وتقترفه يداه، فى العديد من ويلات الحروب، وجرائم التقتيل، والتنكيل والتمادي فى التظلّم، والغيّ، والتجنيّات، والتطاولات، والتجاوزات، والإغتراب، والإستلاب، والهجرات التي لم تعد اختيارية طوعيىة، بل أضحت تتمّ قهراً، وقسراً، وعنوةً، ولعلّك سمِعتَ عن الأخبار التي تنبيك كلّ صباح ومساء عن التجارب والمناورات الحربية التي غالباً ما تتمّ بالذخائر الحيّة التي تقوم بها دولٌ وبلدانٌ كبرى تصطفّ فى صفوف ما يُسمّى بالعالم الأوّل المتحضّر(!)، وحتّى لو تعالت أصوات الإحتجاجات، وارتفعت صْيحات الإدانات فى مختلف أرجاء المعمور، فلا رادعٍ، ولا قارعٍ، ولا واعزٍ يجعل تلك البلدانَ تتراجع، أو تتوقّف،أو تكفّ عن هذه التجارب المُرعبة الرّهيبة التي تصطكّ لها الأسنان، وترتعش بها ولها الفرائص والرُّكبان، فى كل مكان. كان ذلك كما يزعمون لحماية هذه البلدان “المتقدّمة” من الأخطار الخارجيّة التي تهدّد أمنَها القومي..!! قد يُفهمُ من هذه القولة السّخيفة معاني شتّى، ولكنك لن تستخلصَ منها سوى عجرفةَ الإنسان وغرورَه، وغطرستَه، ومروقَه، وتكبّره، وحُمقَه وجُنونَه كذلك، فحتى لو قُلِّمَتْ أظافرُه، فإنه لا يزال لصيقاً بحيوانيته الدّفينة الأولى، يرتكبُ باِسمها وبإيعازٍ منها أفظعَ الجرائم، وأفدحَها بأسلوب مهذّب، حسب شيخ الفلاسفة الإغريق سُقراط..!  

ها نحن نقف على أعتاب عام  جديد يحمل في طيّاته كثيراً من  التوجّسات، والاستفسارات، والإرهاصات، والآمال والآلام معاً، إنها لعبة الجدّ التي تبتسم  في وجه هذا وتكشّر في  محيّا ذاك، حتى تفضل فيه العين أختها، أو يكون فيه اليوم لليوم سيّدا. وأنت أيّها العام المنقضي, لقد ودّعنا فيك ومعك بألم ممضّ  صفوة من أصدقائنا وأحباّئنا وخلاننا ومعارفنا وأقاربنا ممن كنّا نتعايش معهم، ونقيم بينهم علائق حبّ ووشائج مودّة. فواحسرتاه  عليك أيها العام النكد الذي لم نر فيك سوى الجوائح اللعينة والاوبئة البغيضة التي قضّت مضاجعنا، واثقلت كواهلنا وهدّت أنفسنا، وأحالت حياتنا الى جحيم مقيم… وتبّا لك أيتها الأيام، لقد تأسّى من قسوتك وفداحتك السابقون، وها أنتِ ما فتئت  تنوئين بكاهلنا، وتثقلين بكلكلك علينا، وتتوالين منثالةً مهرولةً، تنهبين أعمارَنا نهباً مخيفاً، وتعصفين بحياواتنا عصفا رهيباً مريعا، ومع ذلك نظلّ نأمل، ونتأمّل، ونحدّق في السّماء كأننا نستعطفها أمراً في كنه  أنفسنا، وقرارة أرواحنا، وألسنة حالنا وأحوالنا تردّد في مطلع  الحَوْل الجديد مع “آغا ممنون” الخائب الرجاء:  

ليتَ هذا العام يأتي بالضّياء     /    ليتَ هذا اليأس يتلوه الرّجاء !.. 

Visited 18 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا