الشاعر فادي العبدالله يُضيءُ ملحهُ في ألبوم ذكرياته وأوراق كتبه تلمع
ياسر مروّة
لنبدأ أولاً، من باكورته الشعرية، حيث صدر ديواناً قديماً للشاعر فادي العبدالله بعنوان “غريبٌ وبيدهِ كاميرا” عن دار الجديد سنة 2000، وقد قسّمه إلى ثلاث أجزاء في مدة تاريخه السنويّ.
يقول الشاعر العبدالله في القسم الأول بعنوان “القرزمة” (1995-1996) ومعناها بداية بين أمرين؛ بداية قول الشعر من جهة، واكتشاف العالم من جهة ثانية، مع الاحتفاظ بمسافة الغرابة بينهما: “أُكفكفُ أصابعي/ ألملمُ أقنعتي في سماء صلبة داخلية”.
أما في القسم الثاني(1996-1997) في البطء والضحك الذين يكبرا، يكتب: “بين الهلال وحصان البحر مع الصوت الذي أضاع صمته”. في نص “غريبٌ وبيدهِ كاميرا” يبدأ في فرحة الآخرين، يقابله دمعهُ، ويلتقط صورهُ، متمهلاً خوفه بين خياله وصمته.
في القسم الثالث يلج في استعمالات أخرى (1998) بدت كما كان في قديم الزمان من ألبوم تفاصيل ذكرياته وأوراق كتبه:”ليس متشائماً وإن خالطت المرارة/ الصوت في قعر الحنجرة وألفة الذاكرة”.
درس فادي العبد الله في كلية الحقوق في بيروت، ثم باريس، فحاز على الدكتوراه في المحاماة والقانون الدولي. انتقل بعدها إلى هولندا للعمل تاركاً ورائه البلد لأسباب متعددة، منها ما يرتبط برفضه الخدمة العسكرية، والاستمرار في التعليم، وأيضاً تجربته في ممارسة مهنة المحاماة في لبنان، وما تكشّفت له عن فساد وإفساد، ما يجعل مثل هذا العمل مستحيلاً بالنسبة إليه.
ولد فادي العبدالله في طرابلس (لبنان) سنة 1976، تعرف أثناء فترة أقامته في بيروت إلى الأوساط الثقافية فيها، لاسيما من خلال “ملحق النهار” الثقافي في البداية. كتب الشعر منذ صغره، وقرأ الكثير من الشعر بشغف، لكنه شَغَفَه بأبي الطيب المتنبي وبسام حجار وبينهما عدد من رواد شعر التفعيلة الذين عبروا بسرعة في حياته. فكان مدخلاً إلى عالم غنيّ باللقاءات الأدبية والفنية والترجمات متعاوناً مع عدد من الأصدقاء الشعراء والفنانيين في مشاريع فنية ضمن جمعية “أشكال وألوان” أو “بينال الشارقة” وغيرها من المشاركات.
صدر له عن دار الانتشار العربي ديوان ثاني”يد الألفة” 2002، وفيه تتشابك أيادي الألفة في نصوصه الدامعة والدامغة للذاكرة كمعيار للعيش في مديح الموسيقى العربية والمعاجم وهالة الشاعر بسام حجار.
هنا تأتي حالات من التذكُّر لما لهم من أيد انطبعت صُوراً ووجوهاً وذكريات بين ومضات الفرح ومحاولات النسيان والولادات: “في غرف مظلمة بجدران مائعة لزجة من المخاط”. تخيلوا أنتم في الرحم:”بالكاد يغسل الدمع المآقي والقلوب في منبعه غنائي”.
فقد كان لدراسة الشاعر لآلة “العود” الوترية الموسيقية (هويتها العربية بلاد الرافدين المنشأ) منذ المراهقة في(الكونسرفاتوار) في طرابلس، اثراً كبيراً على نصوصه الشعرية. وقد عمّق العبدالله اهتمامه بالموسيقى، فتحول أيضاً إلى مجال أثير للكتابة. قبل آلة العود درس “البيانو” وقتها وكان التحول من البيانو إلى العود أيضاً مرتبطاً بالتعلق بالأحاسيس والتذوق بالموسيقى الشرقية والرغبة في فهمها وعزفها.
يقول العبدالله: “أحسب أن كتابتي عموماً وخصوصاً الشعر مرتبط بالرغبة في حفر جيوب أو مغارات، يمكن التنفس في هواءها، وجيوب في اللغة وفي الزمن ومن الترحال والأمكنة، فكيف يمكن من خلالها التعامل مع الفقد الذي أراه مكوناً أساسياً ومسبقاً للإنسان”.
يُشيرُ إلى تشابك في ديوان “يؤلفنا الافتتان” هذا الإهداء إلى من يؤلّفونني برقة وكياسة ولطف وإلى الحادثة التي راحت ضحيتها قمر الجبل والتي تقمصت إليها خيوط شمسها الذهبية هو الفنان باسم زيتوني؛ صدر عن (دار ملامح ومنشوات إكس أو) سنة 2009 ويطل “الرجل السابق” علينا في نصه الأول الآخاذ إلى عالم الأموات والفقد وحبه النابع بمناهل الثقافي والعلمي والحقوقي، مما جاء فيه:” حين مت/ مت مثلك تماماً/ جلست على نفس المقعد/ الرجل السابق الذي نطح” الرصاصة والشظية و”الجدار برأسه/ كنت أنت الميت/ وأعرف أنك كنت صديقهم فرثوك/ وأكملوا دونما عظيم انفعال/ حتى أنهم رثوني أنا أيضاً/ دونما عظيم انفعال”.
ويتابع الشاعر في نص آخر، يتدحرج في أحد دور السينما التي لم تودي به إلى لقائه بين عينيه وعيون الممثلتين الرائعتين. يتخبط الرعب فيه وتصدمني سعادتي فيها خارج الزمن، ويظل ألمه الباقي إلى حين.
نصوصه سلسة فيها متعة ومفاجئة يفاجئني أحياناً وأبحث عن المزيد من الفائض الخيال والغرام والغيرة وذاكرة طرابلس وتاريخها وبحرها وأحيائها الشعبية وصداقاتها وأعدائها وشهدائها وفيها ما يستحق القراءة المرنة أكثر من الصدمة.
ينتقي كلماته الصعبة أحياناً لأنه متمكن بلغته العربية ويستخدم المعاجم حيث تتعقد طبقات المعنى والمدن واللغة والفتنة التي تؤلف معاني ذلك الجذر اللغويّ. من أين تأتي هذه الرغبة في رواية الحكايات “ميّة النار” وألم النسيان فيقول: “سنحيا معاً إثر موتنا”.
في قول المتنبي من شعراء العصر العباسي:”على قلقٍ كأن الريح تحتي، أُوجّهُها جنوباً أو شمالاً” ويشبه قوله هذا، بين القديم والحديث الذي يتواصل في قناة الشعرية في حقبات زمنية تلت، ويقول الشاعر العبدالله: “على قلقٍ تقيمين، كأن المعاني تحتك متلاطمة”
ويرتكز كتاب “توقيعات” عن جمعية “أشكال وألوان” 2010 بكتابة شذرية تقبل التراكيب الاحتمالية على أمل توليد شرارة من تصادم شذرات غير متوقعة، في تحية إلى الفيلسوف والكاتب “إميل سيوران” (1911-1995) وإلى الروائي والشاعر”ريمون كينو”(1903-1976) حيث كانت المناسبة لفهم أفضل للعلاقة بين القانون والوقائع وبين الكلام والحياة بين قصدية القانون واختياراته ومحاولته بناء حكاياته الخاصة ومنافسة الفن له، وكذلك لفهم التأطير الذي يقوم به القانون المكان والزمان وهو ما يحاول الفن خلخلته باستمرار. في كل ذلك الجسد حاضر جسد القاضي رابطاً بين الكلمات والاشياء وجسد المتلقي للعمل الفنيّ الذي يقبل ان هذا الأخير ينشىء زمنه الخاص، لهذا كان تصميم كتاب “توقيعات” نفسه يشبه اليدين صفحات مقطعة أفقياً، بعشر أصابع عليها التوقيعات، ويمكن للقارىء استخدام أصابع لخلق احتمالات التصادم بين هذه الجمل وابتكار تساؤلاته الخاصة.
يستكشف الشاعر العبدالله رحلة الفقد المتجذر في ديوانه “أشاطرك الألم برهة والودّ طويلاً”، الصادر عن دار الجديد 2015، والذي يتكشف داخلنا كأنه ماء يتقطر من ماء الزمان وحجر المكان ويفسر الشاعر في نصه الدقيق: “دروس إبتدائية لبشرية هانئة”:”علم النظرات في أحرج الأوقات/ أن نلحظ النظرة إلينا/ ونَرُوض نظرتنا/ كم من سوء تفاهم في تبادل نظراتٍ.”
ويقفز الشاعر من الخسارات والألم والحروب والصروح ويحلم أن لا جنس في الجنة التي يصدر منها إشارات السخرية ونوبات الضحك والتعب النفسي والندبات والذكريات، ويقول في نصه “كوة” (ص:71): “مثل كلّ الذين يلهثون خلف ذكريات الآخرين/ أقف أمام تمثال أو صورة/ يقطع أحلامي/ زعيق ابن يومين المستغلقُ” ويتابع في نص آخر “لباقة” (ص: 55): “ثمة من يملك قدراً/ هائلاً من اللباقة/ كي يقف عند العتبة/ يعتذر بلطف عن قفص العمر”.
طرحتُ السؤال على الشاعر فادي العبدالله -(الذي يقيم في مدينة لاهاي/ هولندا، ويعمل كناطق رسميّ باسم المحكمة الجنائية الدولية)- ماذا عن علاقتك الوثيقة بين اللغة ومدينة طرابلس وبيروت العاصمة والمنافي..؟
أجاب: “أعقد الخطوط التي تخترقها المدن من التاريخ إلى الموسيقى إلى أسرار اللغة إلى العمارة ودواخل أساطير المدينة الشرقية إلى البحر هي مدينة فريدة ويتيمة في دولة لبنان الكبير التي قطعتها عن محيطها التاريخي الذي هو الساحل السوري ولكل الطرابلسيين روابط عائلية به. طرابلس مدينة من لغة وحكايات لم يخرج منها حتى الآن إلا أقل القليل، دوّنَتُ فصلاً كاملاً عنها، لا تزال هذه المدينة تنتظر من بسردها، وبخاصة اليوم بعد انهيار سردية بيروت قد يكون المجال متاحاً لسرديات مغايرة عن لبنان، وربما يكون أيضاً بعد انهيار لبنان نفسه، دور متجدد للمهجر والمنافي التي طُرد إليها كثير من اللبنانيين ليعيدوا تأسيسه بشكل مغاير لكتله الطائفية الكبرى.”
سؤالي الأخير حول العلاقة التي تحكم تجربتك الشعرية الناضجة أولاً، وإلمامك في تجربة الكتابة عن تاريخ الموسيقى العربية وقضاياها ثانياً اضافة الى كونك رجل حقوقي بإمتياز؛ فما هو أوجه الشبه بين التجربتين وكيف يستفيد الأول من الثاني وبالعكس؟
يُجيب العبدالله: قد لا تأتي الاجابة المُثلى عن سؤال كهذا مني، بل منك كقارىء. لكني أظن أن وراء كل تلك المجالات أسئلة تتعلق بكيفية
تقطيع لعالم متواصل، كي
نحفر فيه جيباً للهواء. فالموسيقى اختيار قطع درجات محددة
من مساحة لا نهائية من الاصوات، والقانون ايضاً انتخاب وقائع محددة من عالم شديد التشابك والتداخل كي تكون وقائع
ذات مغزى لقضية معينة، وكذلك اللغة التي هي محيط كامل نحاول داخلها اختيارات للكتابة، أيّ اختيارات داخل اختيارات مسبقة علينا. ممن صنعوا هذه اللغة
من أحرف معينة ومنحوا تجاربهم
ألفاظاً نحاول نحن مواءمتها مع أحوالنا والدفاع عن الثراء
المتضمن داخلها.
في كل ذلك نحفر في جبل وصلنا إليه متأخرين.
أخيراً قدّم الشاعر فادي العبدالله الكتاب الجديد بعنوان “البياض الباقي” وصدر عن مؤسسة دار الجديد سنة 2022، وقد كُتِب الشاعر لهذه القصائد بين عامي 2004 – 2020. ويقسم إلى خمس أقسام: إننا سوف نجيء إلى عالم الملح وأيام الوهج التي لا تُضاءُ بالقَبَضاتِ الصَّارِمَة والحظ العاثر وأحلامه المستعادة ويحركها الإيقاعات السحرية الأفريقية وإلى أن يسبر أنهار اللغات واللهجات والأرض بلا ضفاف في رحلة طويلة من تداخل الحياة و تداعيات الحروب وخطط السلام، “وما عُدْتُ أَذْكُرُ بَيْتي تَقولُ طِفْلَةٌ / لَكِنّي سَأَعود”، وما يبقى منها آخر الأمر غير الحب والملح وبياض الباقي بلا سوء في العيون، وما لا يسع الشعر قصائد وكلمات ورسائل غرقى، يبدأ قوله إن العرق والدم والدمع ومياه اليم وألم النسيان والفرح والعذاب، كلها تفاصيل أسراراً مالحة، فيقول في نصه”عيون السماء النهمة”(ص:22):”في العين المحدقة فيّ/ في مواجهتي/ لمعةُ قسوةٍ عارمةٍ/ لا يتخللُها عطفُ ولا رقة/ ودهشةُ ولا فصول/ كعيونِ السماء النهمة إلى الغرقى.” كمن يمتلك الشاعر عصا سحرية وجوهرته الثمينة، ويهتم بمعجمه الغنيّ ويصف شعباً وجبلاً وأطرابه وأهاته، يتابع “الملك الضليل”ص: 49 في نصه”غير أن العالم يصفعني في لغات/ الغير معانٍ أخريات/ وبما لا يقْبل لحناً ولا ترجمة/ كيف أقول ما رأيت/ في عيون نُجلٍ حُوْرٍ/ بليلة دهماء/ أو ما دهاني/ مل لمْسَتِك الخاطفة”، فأصف وحدة نصوصه “الفخمة” المتماسكة الملحمية بكل متناقضاتها ومتشابهاتها وتشبيهاتها الفنية ويمتلك لغته الخاصة وبنائها الشعرية المرصعة، فيُضيءُ ملحهُ في ألبوم ذكرياته وأوراق كُتُبه إلتماعاً، ويظل إشتياقه المنسي وبياضه الباقي في عالمه الواقعيّ العلميّ الحاليّ.
صدر له أيضاً عدة كتب منها:
كتاب سماع الشرق: موسيقات منسية، موسيقات حية (بالفرنسية) إشراقاً ومساهمة – دار Actes Sud Sindband ومتحف MUCEM 2020 كتاب الهشاشة أساساً عن لقاءات مع الكتابة اللبنانية المعاصرة – مؤسسة دار الجديد 2022 .