بوعي الشعب ونضاله وعمله يبنى تاريخ تطور الوطن..
مصطفى المتوكل الساحلي
روح ودم جسد الوطن وعقله هو الشعب الذي بنى نفسه والدولة، ونسج حضاراته وثقافاته وأعرافه وتشريعاته فوق أرض حماها بوجوده منذ الخلق والنشأة فدافع عنها وسمى أمكنتها وجبالها ومراسيها وأنهارها فعرفها العالم بتفاعله ومناراته منذ مئات القرون، أما معرفة أوضاعه في كل حقبة فتكون بقراءات في الحفريات والنقوش والتراث والمآثر والأدوات وطرق العيش والسكن، وماهو مرتبط بها في حضارات أخرى بهذه القارة وغيرها، وتكون بتشخيص علمي لأحواله ومستوى معيشته، أو من تدمره ومطالبه ومختلف صيغ احتجاجه، التي يثير بها انتباه المسؤولين لمكامن العلل والخلل، تعلق الأمر بتعسف وظلم من أفراد بالقرى والمدن، أو بتداعيات السياسات المعتمدة من الحكومات وما قد يعتريها من تعثر وسوء تنفيذ وتدبير، أو بوجود جيوب الرفض والاستهتار بالقيم الانسانية والمجتمعية والحقوقية…
لهذا تتجدد طرق التعبير المشروعة والشرعية الشعبية والمدنية التلقائية الفردية والجماعية، وفقا للأحوال العامة في علاقة بالقوانين والتشريعات المعتمدة ومراعاة لموازين القوى والظرفيات ومسارات المصالح الشخصية والعامة، إن تشخيص الأوضاع والتعريف بالمشاكل والإكراهات والفوارق السلبية.. لا تخفى على كل عاقل ولبيب، وقد أبدع الحكماء والمصلحون والمجاذيب في توصيفها، قال سيدي عبد الرحمن المجدوب:
ضْرَبْتْ كَفِّي لْكَفِّي ** وُخَمَّمْتْ فالأَرْضْ سَاعَة
صَبْتْ قَلّْة الشِّي تْرَشِّي ** وُتْنَوَّضْ مَنْ الجْمَاعَة
ولنا أن نقول لايعذر أحد بجهله للواقع وعدم علمه بأحوال المظلومين والمظلومات والكادحين والكادحات، وهذا يهم ويعني من تولى ويتولى أية مسؤوليات حكومية أو ترابية أو إدارية بأصوات المواطنين أو يستخلص أجرته وتعويضاته من أموال الشعب / الدولة، مما يستوجب ويلزم الجميع بالتجاوب الفوري الرصين لمعالجة المشاكل ورفع المظالم وتصحيح المساطر، وحتى مراجعة التشريعات للقطع الكامل مع الانحراف والاستهتار والتهاون في خدمة الشعب، في كل المجالات الحياتية بالتسويف وترويج الوعود وتهدئة الأنفس ببرامج تقدم على أنها باب للرخاء والتقدم..
وهكذا يسجل ضعف روابط التواصل والإغراق في شكليات “التفاعل”، وعدم اعتماد مخططات وبرامج وأعمال تبني في الواقع أجوبة عملية ملموسة، تظهر آثارها في معيشة الناس وجيوبهم – دخلا وأجرة – وظروف عملهم وتعليمهم وصحتهم وتنمية مدنهم وقراهم ومجالاتهم الجغرافية… ، إن من أسباب ضبابية العلاقات وتقلص الثقة وتكلسها سوء تجسيد روح الدستور والقانون والتشريع وفقه الواقع، بالنسبة لمن يعنيهم بشكل رسمي تنفيذ بنوده كي يراها الشعب ويتمتع بها في تفاصيل حياته اليومية، ذلك أن بعض “المتحدثين” الرسميين يسيؤون لإرادة وعزيمة الدولة والشعب، المجملة في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص والديموقراطية الفعلية…
إن قراءة علمية في الحراك الاجتماعي والنضالي محليا وإقليميا ووطنيا لها أسباب موضوعية ووجيهة، بعد أن ضايقهم وأتعبهم الانتظار والصبر فاختاروا لأنفسهم صيغا نضالية بتأطير من النقابات، أو المنظمات المدنية وممن يملك من الإرادة والشجاعة، ما يجعله يجمع ويؤطر وينظم من يتقاسم معهم المطالب والمشاكل والإكراهات، فيصوغون مشاريعهم وتصوراتهم لمعالجة ورفع المعاناة، وإعادة بناء وإصلاح أحوالهم ومعيشتهم بطموح مشروع، يسعى للتغيير الإيجابي المواكب للحاجات والضرورات الإنسانية الاجتماعية والتنموية والتربوية. ذلك أن غاياتهم المساهمة في بناء وتقوية الوطن بالعدالة والديموقراطية والتأهيل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كما حددها القادة والكفاءات الوطنية والمنظرون والمؤطرون والمنشطون للحركات المطلبية والاستنكارية.. فأمثال هؤلاء وثقهم التاريخ في سجلات الإشراق والحق والحضارة، طوال قرون حياة شمال إفريقيا بريادة مغربية عصية على الانصياع والانقياد لأي دخيل أو قوة استعمارية أو جهة ظالمة…، كما زمم المؤرخون في صفحات سوداء كل من انبرى بعد نوم عميق و”تقية ” للتحكم والإستفادة الإنتهازية الريعية ساهمت وتساهم منذ عقود وحقب في بؤس وأزمات الغالبية من الشعب والكادحين، ومنهم من كان جزءا من صناع الأزمات والقرارات الجائرة..
وهكذا نجد مبادرات وأعمالا قوية وواضحة، يراها ويتفاعل معها كل من له عقل سليم وضمير نزيه، ذلك أن هناك تجليات وطنية نيرة لكل حدث شعبي سياسي أو ثقافي ما قبل الاستعمار الأوربي، وبثورات شعبية ومقاومات مسلحة وأعمال نوعية إبان عقود الاحتلال، وبحراك نضالي مستدام ومتجدد كما ونوعا وموضوعا أطره قادة العمل الوطني والحركة السياسية المعاصرة والحركة النقابية والنخب المثققة والمفكرين الكبار، ومنهم ثلة مباركة من العلماء الفقهاء ما بعد انتزاع الاستقلال..
فالإصلاحات التي تطلقها الدولة بين كل حراك ومرحلة نضالية، تسعى لتقدم إجابات على المطالب والانتظارات الشعبية أو النخبوية..، فمرات تعد باستكمال الحوار وتعميق النقاش في القضايا التي تحتاج إلى تفصيلات وتدقيقات، ومرات تنزل إجراءات تجزئ وتقلص من حجم نقط مطلبية لإعتبارات تراها هي..، وقد تسكت عن مطالب وترفض أخريات بتبريرات لا تقنع المعنيين، وأحيانا تصل الأوضاع إلى الاحتقان عندما يغلق باب الحوار ويستعمل القمع والقوة ضابطة وكابحة..
إن القيام بدراسة تربط بين تشخيص الأوضاع والمطالب من جهة، والحراك السياسي والاجتماعي من جهة أخرى، سيجعل أهل الاختصاص في الدولة وفي المجتمع المدني المناضل ينطلقون من خلفيات وأسباب كل أنواع الربيع السياسي والنقابي والديموقراطي والفكري والتحديثي والمعيشي قطاعيا وترابيا، ليقدموا الحلول اللازمة بوضع برامج طموحة جاهزة للتنفيذ، وفتح أوراش ومخططات ومسيرات تنموية تستجيب للانتظارات وتحقق للمواطنين والمواطنات، وخاصة الكادحين والشغيلة والفقراء، والذين يعانون من الأمية والخصاص والهشاشة والتهميش جل ما يناضلون من أجله…
إن غايات جهاد الشعب والوطن والدولة عبر التاريخ هو أن يكون المستقبل للحياة الكريمة والعدالة الاقتصادية والاجتماعية والتنمية الشاملة، قولا وفعلا وعملا وفي كل المجالات..
تارودانت: الأحد 28 ماي 2023