تجربة الألم في “الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى”
لحسن أوزين
قد يبدو مفاجئا ونحن نتأمل حياتنا المجتمعية وما يؤسسها من أطر اجتماعية سياسية وثقافية، وما يسود فيها من علاقات اجتماعية، ذلك الكم الهائل من الالم” الطبيعي العادي”(1) وما يولده من عذاب جسدي نفسي ثقافي معيش بشكل يومي. وهذا الالم متفاوت الحدة والشدة والعمق حسب التاريخ الشخصي للفرد في سيرورة ولادته ونشأته وتطوره، ووفق أية ظروف وسياقات ودعائم وموارد سمحت له بهذه التنشئة المجتمعية، او تلك، وبهذا الحضور الوجودي، او ذاك. ونقصد هنا بشكل خاص الالم الناتج عن القهر الاجتماعي والقمع السياسي وما يورثه في الانسان من أشكال مختلفة من ألم الخوف وما يكتنفه من آليات الحذر والتجنب والهروب والفوبيا …، وهي كلها آليات لا تخلو من عذابات الحرمان من الحرية/الحياة والانحسار الوجودي الى المستوى النباتي للجري اللاهث وراء لقمة العيش المشروطة بالعذاب الجهنمي للخضوع للقدر المحتوم الذي طبعه القمع والقهر اجتماعيا وسياسيا في مجتمع قائم على الخوف.
أما الوجه الاخر الصريح لهذا الالم وما ينتج عنه من عذاب رهيب ممتد في النفس والجسد والزمن والعلاقات ودوائر انتماء الانسان/ السجين، فهو نتيجة جدلية القمع والنضال التي يكون فيها الفرد السجين ضحية تعذيب بشع يستهدف سلخ قيمته الانسانية، وتمزيق هويته الفردية والاجتماعية الى حد القتل أو الموت البطيء. فكيف تمثل عبد الرحمن منيف روائيا تجربة إثارة العذاب؟ وما صدمة الجسد والمعنى التي قاربها فنيا من خلال الشكل الروائي؟ وبأي معنى ومعتقدات وقضايا قاومت الضحية عذاب منطق وسلوك وممارسات الجلاد، ونظام السجن؟
أولا: إثارة العذاب من ألم التخويف إلى ألم التعذيب
رواية “الآن هنا” لا تقبل بترف القراءة، وهي تعتبر الحياد أكذوبة كبيرة، لذلك يتورط القارئ من موقعه في بناء جمالية التلقي في حفلة التلقي بالمعنى الذي تحدد الرواية في النظام السجني للحفلة: التعذيب. يجد نفسه وجها لوجه أمام خوف الالم والعذاب الذي يتستر عليه في حياته اليومية، عذاب رهيب تتكفل بعبء مأساته الكتابة في الرواية كامتداد جسدي لإرادة ومعنى مقاومة عذابات آلام التعذيب.
قمة العذاب الرهيب عندما يجد الانسان نفسه في وضعية لا يستطيع فيها الدفاع عن نفسه وهو يتجرع مرارة العذاب النابع من آلام التعذيب الذي يفرضه الجلاد بشكل وحشي خارج كل ما هو إنساني وهو يستهدف السجين في قيمته الانسانية محطما كيانه الفردي ومدنسا نرجسيته جاعلا منه مجرد قذارة وشيء عفن يجب التخلص منه. ”رفعوني الى الطاولة. كنت مربكا لنفسي ولهم. بعد عدة توضيحات أخذت الشكل الصحيح وجهي الى أسفل عند الحافة، ويداي متدليتان لكي تربطا بقوة الى قائمتي الطاولة، والساقان منفرجتان ليسهل تقييدهما عند الكاحلين وبشكل عمودي الى القوائم الخلفية. أما الظهر الذي تقوس قليلا، نظرا لخشونة سطح الطاولة وللفراغات بين دف وآخر، ولتباين المستويات أيضا، فقد تولى تقويمه واحد منهم، حين هبط بقوة وبشكل مفاجئ فوق ظهري.” (214) في لحظة عمياء كأنها القدر المحتوم يجد الانسان نفسه بين يدي جلاد لا يرحم وهو يصر على تدميره وتحويله الى شظايا قصد نزع اعترافات ومعلومات من فرد أعزل تم الاعتداء بوحشية على كيانه الشخصي. وتكبر مأساة الضحية حين يجد نفسه تحت وطأة ألم وعذاب رهيب خارج دائرة المرض أو شيء من هذا القبيل، ألم يسعى الى تفكيك وجوده وسلخ انسانيته، وتحطيم كل ما يؤسس وجوده الجسدي والمعنوي.” في لحظات معينة والشرر يتطاير من عيني، ونوافير الدماء تتقافز كالجنادب من القدمين، من الساقين، كادت السبابة تتحرك.” (215) هكذا يفعل به الجلاد ما يشاء من صنوف التعذيب في تصعيد لعنف الألم قصد اذلاله وتهشيم جسده وكسر ارادته وجعله مجرد دمية ملوثة تتقاذفها الركلات. ” وفي لحظات أخرى أحس المياه الباردة وقد أغرقتني، ومن خلال المياه أحس جمرا يشتعل في جسدي كله، جسدي يتحول الى فحم محموم ينث وهجا دون توقف. القيء تتصاعد رائحته، الدماء مثل نجوم تنبعث أضواؤها من ثقوب وشروخ ملأت القدمين والساقين وملأت جو السرداب”. (216) إننا إزاء تجربة ألم مروعة تتجاوز حدود إثارة العذاب وسلخ الجلد الى تخريب جسد الضحية ووشمه ذاكرته بالحديد والنار، حتى يتشرب الذل والقهر والمهانة ويصبح عبدا طيعا وكلبا تابعا مهشما ومدنسا لا قيمة له، كشيء تافه ومنحط يمكن الاجهاز عليه في أية لحظة. إنها أبشع تجربة ألم تعجز الكلمات عن قولها، وصفها، إنها تستعصي على التعبير، لكن منيف من خلال تمرسه على الصنعة الفنية الروائية يعرف كيف يجعل القارئ طرفا في الرواية، قطبها الجمالي في حفلة التلقي التي تجعل القراءة شكل آخر للكتابة التي قلنا عنها إنها امتداد للجسد /الانسان في نضاله ضد العذاب الناتج عن تجربة الألم/ التعذيب. ” تضاعف الألم عشرات المرات، تماما كما لو أن الانسان يحاول سلخ جلده… النار، النار في كل مكان. نار تتفوق على نفسها في كل لحظة. تتزايد. لونها البرتقالي يحمر شيئا فشيئا، يصبح على زرقة، وتمتد من الساقين الى الظهر حتى إذا وصلت الى الكتفين انتشرت صعودا ونزولا لتتركز أخيرا في العينين والخصيتين، وحين تتركز هناك يغادرني الخدر ويصرخ ألم حاد كأنه الأسياخ في كل مكان من جسدي، فأتمنى أن أغرق في ماء بارد، وأن أبقى هناك فلا أخرج أبدا. أتمنى أن أصبح قطعة من جليد غير قابلة للذوبان نهائيا، لعل جزءا من هذا الألم يتلاشى”. (218) إن تفاعل القراءة مع تجربة الألم في الرواية كما في هذا المقطع وغيره كثير تجعلك كقارئ معنيا بعذاباتها الرهيبة من زاوية بروز أحاسيس التعاطف الانساني، أي تشكل وتلاحم المشترك الانساني ضد توحش القمع والقهر الوحشي الى حد هدر الحياة والقضاء على القيمة الانسانية.
وغالبا ما كان الجلاد يمارس التعذيب على هواه وبنزوة فيها الكثير من الغطرسة والشراسة في التنكيل ونشر رعب الألم في جسد الضحية رغبة في تعميق عذابه النفسي والجسدي بفرض عليه العذاب والألم من الخارج كاعتداء وحشي عليه قصد تدميره وسحقه كذات فردية وهوية شخصية ينبغي تمزيقها وتفكيكها لتتحول الى مزق عفنة.” وإذا كان الانسان، أي إنسان، يتعب، يمل، في لحظة معينة من رياضة أو عمل ويحاول أن يتوقف أو يستريح فإنهم كانوا كالقردة أو مثل أسماك القرش، مع نزف الدماء، مع تلاشي الخصم أو تراجعه، يزدادون شراسة وعنفا.”159 هكذا يراهن الجلاد لكسر إرادة السجين على زرع الألم وتصعيد العذاب من خلال كل أنواع التعذيب الواقعية والخيالية في تجريب مختلف أشكال السحق والتنكيل دون أن تقبل توسلات السجين. ” حتى هؤلاء الذين يبكون ويستغيثون في أواخر الليل، أو حين توزع الأرغفة، كانت ترفض توسلاتهم، لأن الهدف أن يسحقوهم أكثر مما فعلوا حتى الآن، لكي يجبروهم على تقديم تنازلات أكبر، وليعطوا الاخرين درسا حيا عما ينتظرهم” (177) هكذا تتضافر وتتكامل عمليات التخويف من الألم والعذاب الناتج عنه مع عمليات ألم التعذيب بغية سحق الانسان وتخريب هويته الذاتية والزج به ي سيرورة التفكك والاختلال والاضطرابات المشحونة بالعذاب القهري الذي يستمر بشكل مرب وجنوني. ” حين بدأت الكابلات تنهال على القدمين، على الساقين، واشتعلت معها الصرخات، قبضت على نفسي في حالة من الخوف لا يمكن أن تخفى، أو أن يسيطر عليها: انكمش جسدي كله وأخذت ساقاي بالارتجاف، وزادت دقات قلبي أيضا. لقد حصل ذلك دون ارادة… كنت كمن يدوس جمرا أو زجاجا مكسورا، كمن يمشي على شفرات حادة وغير منظمة” (224 و226). وتتمثل أقصى أنواع توليد الألم، و ابتكار إثارة العذاب من خلال إكراه السجين على حضور و مشاهدة حفلة تعذيب وحشي لإنسان أعزل ”. وبدأت الكابلات، لكن على رجلي واحد آخر مربوط الى الطاولة. لم تكن تهوي على رجليه أو ساقيه فقط، كانت تهوي في باطن عيني، فكل ضربة أحسها مثل سيخ النار داخل العين، وسط القلب تماما. أما حين بدأت صرخاته تتوالى فقد شعرت أن مجنونا أعمى وبيده زجاجة مكسورة يطعن كل من يجده أمامه، وكنت الوحيد الذي ظفر به وأخذ يوجه إلي كل الطعنات. تمنيت أن أكون المجلود ولا أسمع الضربات تنهال عليه ثم تليها الصرخات، فالذي يضرب يمكن أن يغمى عليه، ويستطيع أن يشتم، أما الذي ينتظر دوره، الذي يشهد التعذيب رغما عنه، فإنه يعاني أضعاف ما يعانيه المجلود ذاته”. ( 22). هكذا يجعلك السارد منخرطا في بنية المتن والمبنى، معنيا بتجربة الألم ، يورطك في محرقة الألم والتعذيب، وأنت تتلقى الضربات وتعاني محنة الألم دون أن تنتظر دورك أو تكتفي بالمشاهدة، بل يقذف بك المبنى في وحل المتن عاريا من براءة الحياد الكاذب للقراءة الموضوعية المترفة لغرض تزجية الوقت. تستبطن تجربة الألم، تنفجر كل الحواس وتشتغل بجنون قهر الخوف المنبعث من حفلة التعذيب والتفكيك والتدمير لعمق الانسان، وهي تشهد هذا الكم الهائل من رعب الألم الحافر في القلب أخاديد العذاب الهمجي الذي طال الانسان في شرق المتوسط. ” أخذوني لا أعرف الى أين، لأن الضربات التي كانت تتوالى وتتسارع لم تترك لي حتى فرصة السقوط… كنت أحاول حماية رأسي بيدي، لكن الضربة التي تنزل كالمحراث في الجانب الأيمن أو الأيسر، عند الكليتين، تجعلني على يقين أن من يضرب بهذه الطريقة يريد أن يقضي علي” (230).
ثانيا : صدمة الجسد والمعنى
الجلاد يلعب لعبته القذرة وهو يشتغل على جسد السجين قصد انهاكه وتدميره من خلال ألم التعذيب المروع خالقا إحساسا ووعيا متشظيا ممزقا في نفسية الضحية وهي تعيش عجز المعنى والفهم تجاه انتهاك قيمتها الانسانية وجعل جسدها مسرحا للتنكيل وتجريب أبشع أنواع التعذيب بنوع من المتعة السادية في الاجهاز على نرجسية السجين وتحويل جسده الى مجرد عدو له يسومه العذاب المأساوي في العجز عن حماية الذات والأنا من الانكسار والانهيار أمام شر الجلاد الذي يتفنن في جعل شخصية ووعي وإدراك السجين يختلف عما قبل مرحلة التعذيب. أي أن صدمة الجسد/الحرية المشبع بمعنى الوجود والكينونة الفردية الواثقة من حصانة وقيمتها الذاتية، تهتز الصورة وتتزلزل الهوية الفردية وتتعرض الشخصية لتفكك مرعب بسبب انهيار معنى وجودها وبالتالي انهيار معنى الحياة. تجربة الألم في الرواية بالموازاة مع العذاب الذي يعيشه السجين لحظة التعذيب النفسي والجسدي، تصير جزءا من ذات القارئ خلال جمالية حفلة التلقي، بمعنى أن القارئ يصير معنيا بآلامها وعذاباتها فهي تعنيه وتقصده، وتضع أمام الموقف الواضح الصريح والصعب، إما أن يكون أو لا يكون حتى يكتسب قيمته كإنسان. ” أن يتحول الضرب الى متعة، الى نشوة، ان يكون مقصودا لذاته، فلا أتصور أن هناك مخلوقات يمكن أن تكون حمقاء بهذا القدر”. (230).
إن الفرق بين المجتمعات القمعية للاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي، والمجتمعات الديمقراطية يكمن في فهمها وتقديرها واحترام للجسد الانساني في وجوده وكينونته كحرية تعاش الآن هنا في الحاضر كرؤية حياتية ونمط وجود. ففي واقع هدر الجسد، هدر الحياة، يتم هدر المعنى، وتنتشر ثقافة الترهيب والتوحش والعدم . ” كنت خلال هذه الفترة أكثر رغبة في الموت، أو بكلمات أدق لم تعد الحياة تعني لي شيئا مهما وخطيرا، خاصة بعد العذاب الذي عانيت منه، وبعد الذل الذي سحقني. كما أصبحت مشغولا بهؤلاء الجلادين أي بشرهم؟ هل يمكن أن يأكلوا بالأيدي ذاتها التي كانوا يضربون بها؟ وكيف تخرج الضحكات من نفس الأفواه التي قذفت هذا الكم الهائل من الشتائم البذيئة؟ وتجاه من؟ تجاه أناس ممزقين، غائبين عن الوعي.” (283). فهذه المخلوقات/ الجلادين الشديدة القسوة المشوهة التي ينخرها السوس من الداخل، والتي تعيش بلا معنى، تعمل باتجاه الاجهاز على معنى الوجود والحياة وهي تحول جسد وذاتية السجين الى مجموعة من الأشلاء المحطمة في عمقها الذاتي والانساني الى درجة اليأس التام والرغبة فقط في الموت وهي تعاني عذابات ألم التعذيب، ثم بشكل مضاعف الآثار الرهيبة التي حفرت رعبها في الجسد والذاكرة مخلفة الكثير من الأمراض والتشوهات الجسدية والنفسية العميقة التي يستحيل التغلب على تأثيرها العدواني والسلبي على مستقبل حياة السجين حتى وهو ”حر” طليق. ”ولم أستطع أن أشفى، أو الأصح لم أكن مقتنعا بضرورة الشفاء. أصبحت الحياة بالنسبة لي مملة أقرب الى اللاجدوى، وتستبد بي مثل هذه القناعة أكثر خلال ساعات الليل الطويلة القاتلة، حين تمر أمامي، كشريط بلا نهاية، صور المرحلة الماضية، إذ يسيطر علي شعور أن كل شيء تبدد وسقط، وأن ليست هناك امكانية لبداية جديدة.” (71). هكذا تتضح لنا خطورة ألم التعذيب الذي يستهدف في العمق المعنى الذي يؤسسه السجين تجاه ذاته حيث تتعرض أناه وجسده وكل كيانه لنوع من التقويض والتدمير، أي وضعه في مأزق عدم التحكم في عذابه وبالتالي يتعرض لفقدان دلالات ومعنى وجوده، لهذا يلجأ الجلاد الى مختلف أنواع التعذيب قصد التغلب على الضحية وافشال مختلف أشكال الصمود والمقاومة التي يمكن أن تحميها من السقوط والانهيار”. وأن تمر الحياة من جديد هكذا فإن الزمن يصبح شيئا مختلفا لا يعود انتظارا لشيء ما، يتحول الى حالة من الاستغراق لا تفسدها إلا تلك اليد السمينة وهي تطرق الباب أولا، ثم وهي تفتح الكوة، لتلقي بالرغيف ومعه شيء ما، وهذا يعني أن وقتا انقضى، وآخر حل مكانه… والتعذيب هل يكون مثل المرة السابقة؟ وخصومي هؤلاء الذين يضربون دون رحمة، هل سأكون قادرا على أن أنظر في عيونهم ومعرفتهم؟ وهل يحتمل أن يواجهوني برفاق اعترفوا علي؟ وماذا سيكون موقفي وردي عليهم؟” (166). فإذا كانت لحظة التعذيب تفرض الألم الجسدي الذي يستمر بعد كل حفلة تعذيب، لكن ما يراهن عليه الجلاد هو العذاب النفسي العميق في صورة سيرورة تسحق السجين وتدمر أية علاقة بينه وبين وجوده الشخصي وجسده ونواته النرجسية التي تعرضت للتخريب والهدر، الشيء الذي يولد مشاعر وأفكار سلبية بينه وبين جسده وحقيقة كيانه وما آل إليه تاريخه الجسدي والنفسي والشخصي من تحولات طالت دلالات ومعنى وجوده. ”في ذلك المساء وأنا أتناول العشاء وأستعيد مشاهدة النهار كله، قلت وخرج صوتي نزقا لقد شوهنا السجن، وأفسدنا الجلاد، ولآن جاء الموت، وهذا الموت العابث المجاني بالذات، لكي يقضي على آخر ما تبقى فينا من مشاعر إنسانية، وإلا كيف أسمح لنفسي أن أرد على هذا الانسان بهذهالطريقة؟” (58).
وفي مثل هذه المواقف تختلف الموارد الذاتية التي يحملها الشخص في تنشئته الاجتماعية وفي تاريخه الفردي وخبرته ومعارفه لشخصية. وبناء على ذلك يسقط البعض بسهولة وقد يصمد الآخرون ، لكن في النهاية لا يمكن للإنسان أن يخرج من تجربة الألم هذه في وحشيتها وبشاعتها بدون نتائج وآثار جسدية ونفسية ودلالية ، بل وأكثر من ذلك تؤسس لتاريخ جديد مختلف عما كانه السجين من قبل على كل المستويان من الجسد الى المعنى. فالإنسان يجد صعوبة في التعرف على صورته الجديدة بدون أن يعاني ويلات العذاب الرهيب الذي يمزق أحشاءه لأن تجربة الألم في الجسد والنفس والذاكرة تظل حية تحفر الأعماق وتؤثر سلبيا بشكل أو بآخر مهما كانت قوة التحمل والصبر والصمود والمقاومة للألة الرهيب التي يفرضها ظلما وتوحشا الجلاد كنظام وليس فقط كفرد سلخت منه إنسانية وتحول الى آلة عمياء وصماء تخرب وتدمر دون حسيب ولا رقيب تحقيقا لسياسات الحياة العارية. ” حتى تلك اللحظة كنت أخدع نفسي، أمنيها بأوهام. الآن أواجه الحقيقة كلها، ويجب علي أن أعرف كيف أتصرف لكي أحمي في داخلي الانسان الذي لا يريد أن يسقط”. (189).
ثالثا: مقاومة العذاب باعتباره درع المعنى
ولألم التّعذيب عذاباته وبشاعته الهادفة إلى تهشيم الذّات وتشويهها لتصير مجرّد شيء مدنّس، كما أنّ مجراه وسياقه وظروفه لا تخضع كليّا لمنطق الجلاّد، فتاريخ الفرد يمكن أن يعمل في أحد الاتّجاهين، إمّا التّحطيم أو المقاومة، ورغم ذلك يبقى لصدمة الحدث وزنها في عمق الانسان خاصّة كلّما استحال ترميزها، ” لأنّ تصدع المعنى هو تصدع للحياة”. وألم التّعذيب يوجد خارج إرادة الضّحية ممّا يجعله تحت وحشيّة سلطة تتغذّي على الاخضاع من خلال التّعذيب الجسديّ والمعنويّ لغرض سحق الإنسان بتمزيق ما يشكّل نرجسيته وإنسانيته، إلى درجة يضطرّ السّجين إلى الخروج من جسده هروبا من ألم العذاب الّذي يستهدف نقاط هشاشته، بمختلف ألوان التّعذيب من خلق للقلق والحرمان من الحواس والنّوم.” ثلاثة أيام وثلاث ليال لم تر عيناي النوم، أو لم يتح لي أن أنام إلا كما ينام عصفور في مواجهة حية. كانت الصفعات تتوالى حين يسترخي جسدي، حين يميل رأسي، فإذا رفرفت تلك الوسنة وطارت فإن الأنين حولي يجعلني، لفترة طويلة في حالة من التوتر تمنعني من النوم مرة أخرى. فإذا تداعى رأسي أو تخاذل العنق، وحينما اغير جلستي بحثا عن طريقة تخفف الألم، فلا بد أن تأتيني وخزة أو دفرة لتقول لي: نحن نراقب كل شيء”. (202)، والهدف واضح محاولة الجلاد خلق كوة في جسد الضحية تسهل انهياره لذلك دائما تحاول أنظمة القهر والهدر المرور الى الانسان من خلال الجسد بالرقابة والقمع والتحكم، ”ممنوع عليك أن تشعر بالألم، بالضيق، بأي من الحاجات الفيزيولوجية، لأن رهانك الوحيد وربما الأخير في مدى قدرتك على التحمل والمقاومة وهم لا يستطيعون الدخول عليك إلا من باب الجسد، ولذلك كنا نبذل كل جهدنا من أجل إغلاق هذا الباب.”(82)، وانطلاقا من هذا الوعي بسيرورة جدلية التعذيب والصمود، يحول السجين عدم فقدان معنى حياته ووجوده كإنسان يدافع عن حقه في حريته وامتلاك جسده بشكل مستقل وإرادي دون الخضوع للذل والمهانة، ولقيم الطاعة العبودية. إنه يتحمل الألم من زاوية هذه المعاني النبيلة التي تجعله قويا في وجه التعذيب كآلة رهيبة لمؤسسة نظامية. ” وأتذكر تلك الليالي الطويلة: كنت أحشد إرادتي وأنا أرى عيونهم المحتقنة تطل علي مثل فوهة النار، وأسمع أصواتهم تهدر من كل مكان: يجب أن تعترف، فأقول لنفسي: الفرق بين الحياة والموت: لحظة، والفرق بين الصمود والسقوط: لحظة، ولا بد أن أحتمل. وتمر تلك اللحظات الطويلة التي تصورتها بلا انتهاء، أعيشها كلها، وأتجاوزها أيضا، وأبقى حيا وصامتا… ومن بين الرماد والشظايا أحس في داخلي شيئا ينتفض يصرخ: كن عنيدا كالثور، وافعل شيئا غير أن تموت”. (86)، والرواية تمضي في هذا الاتجاه الايجابي للسيطرة على معنى التعذيب وبالتالي عدم ترك العذاب الجسدي والنفسي تحت سلطة هدف الجلاد الذي يريد الفصل بين السجين والمعنى بجعله يشعره ويحس على أنه مدنس نجس ومجرد لوثة خبيثة لا تستحق الحياة .”حين يرتخي الجسد بعد أن أصبح كومة من اللحم المعجون بالدماء، أحس في مكان ما معتم لكنه حصين راحة يولدها العناد…أشعر أن الاشياء تساوت الى درجة أن الحياة والموت شيء واحد. ويزول الخوف”. (90)، ويمكن للتصاوير الذهنيّة، التي تخصّ الأفكار والمعتقدات الأخلاقيّة والفكريّة والسّياسيّة والقيم الاجتماعيّة والثّقافيّة كالشّرف والرّجولة والكرامة…، مقاومة العذاب الوحشي الرّهيب بفضل موارده الخاصّة الّتي اكتسبها سابقا وتبعا لظروف تكون وتطوّر تاريخه الشّخصيّ. “تذكرت الكلمات التي تتردد بيننا عن الذين اعترفوا وسقطوا وكيف كنا نعاملهم وكيف كان ينظر لهم الناس. كنا نطلق عليهم الجثث المتحركة، أو موتى برسم الدفن وكنا نتجنبهم كما يتجنب الانسان الطاعون…الموت، يا أولاد الحلال حق وما من أحد يفلت منه لكن الفرق بين موت وموت، إن موتا يرفع الرأس، وموت ما يذل رأس الميت وحده يذل عشيرته وديرته”. (177).
وجدلية الجلاّد والضحيّة في منطقها الداخليّ هي صراع المعنى إزاء العذاب، أو الخضوع للاحتواء. ”الحدود الوحيدة الّتي تقبل الكسر لتحطيم الفرد هي حدود المعنى. فإذا مسّت فهو ينهار ويتكلّم ويغدو كائنا بين أيدي الجلاّدين… مقاومة التّعذيب ليست مقاومة جسمانيّة فهي تعود إلى القدرة على معارضة المعنى للعذاب لاحتوائه. إنّ تعلّق المرء بالحياة والإرادة في عدم التّخلي عن قيمه، والحفاظ على تقدير الذّات، والوفاء لقضية مّا، إلخ،…فهي تصدّ حدود ما لا يحتمل. ” لقد قبضت على نفسي مرات عديدة وأنا أضحك بصوت عال. وأن أكون هكذا وفي هذا المكان أشعر بنوع من الفخر والاطمئنان أقول لنفسي وهزات رأسي تتوالى كأي حكيم: الانسان مخلوق جبار، قوي وذكي، لأنه قادر على تحمل المصاعب، وتجاوزها. وحين أقلب نظري في الزنزانة أجر نفسا عميقا وأضيف: والإرادة وحدها هي القادرة على مقاومة الزنزانة. (179). وخطورة ألم التّعذيب لا تتوقّف فقط في لحظته الآنيّة وهو يمارس رعب تسلّطه على الفرد، بل يمتد في هويته الممزقة بزلزال عميق، وهذا ما يجعل من التأويل الذي يؤسسه الفرد تجاه ما يتعرض له من تعذيب الفيصل الحاسم، إما في انهياره والسقوط في الاستراتيجية الجلاد كنظام مؤسسي قمعي يعمل على تقويض وتدمير السجين باعتباره رجس شيطاني يشجع على الحرية والنقد والرأي والاحتجاج، أو في صموده ومقاومته للفقدان الجذري لمعنى وجوده . ” أنت الان في مواجهة التحدي الكبير، إما أن تصمد أو أن تسقط. ويشمخ في داخلي نداء عات، صوت كأنه الطوفان: الانسان لحظة قوة، وقفة عز، فاحذر. الله.. كم في الانسان من قوى غير قابلة للكسر والإلغاء”.(200).
وصعوبة فهم الألم ومقاربة معناه تكمن في أنّه ليس مرتبطا فقط بآليات جسمانيّة بقدر ما أنّه تأويل مرتبط بسياقات ثقافيّة اجتماعيّة عاطفيّة، لذلك تعاش عذاباته بشكل مختلف حسب المعنى الّذي يأخذه في وضعيات مجتمعيّة . لهذا نلاحظ في الرواية بحثا عن معنى وترميز للألم بما يجعله مفهوما وقابلا للتّفكير ، يقول نيتشه ” إنّ ما يثير الغضب في الحقيقة ليس الألم في ذاته وإنّما اللاّمعنى الّذي يتدثر به الألم. فلطرد ألم العالم لجأ الانسان إلى ابتكار الآلهة…فبهذه الابتكارات، وصلت الحياة بالقوّة إلى تبرير ألمها ذاته”. لهذا لا يمكن للإنسان أن يهدأ له بال ويتحمّل ألمه إلّا بعد أن يجد معنى له يجيب عن الاسئلة الحارقة التي تقض مضجعه وتؤثّر على حياته كليا. ويعاني بشكل متفاوت أولئك الّذين أحكم الألم قبضته عليهم حيث يغرقون في اليأس وتبخيس الذّات والاستسلام لتجربة الخراب كقانون قدري لا مفرّ منه، بينما يتمسّك آخرون بالمجابهة والمقاومة لإستراتيجية الجلاد والمؤسسة السجنية . ”من العار بعد الاذلال والعذاب، أن أقدم لهم لحمي عشاء شهيا يتمتعون به، ثم إني أدافع عن قضية عادلة وبسيطة: حقي وحق الآخرين في الحياة والحرية، وهم يدافعون عن امتيازاتهم وعن السلاطين والشيوخ الفاسدين، ولذلك يجب أن اكون أقوى منهم، لأن قضيتي هي المشروعة”. (213).
الهوامش مأخوذة من الرواية
عبد الرحمن منيف “الآن …هنا”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط3 – س 1992