فنُّ العيش أو فلسفة الحياة

 فنُّ العيش أو فلسفة الحياة

   سعيد بوخليط

     أهم وازع يبلغه الإنسان، كي يمتثل حقا اختبار ومعنى السعادة، انسجامه مع ذاته تبعا لكل السياقات والحالات، تمكُّنه أخيرا؛ بعد تجارب معينة وتراكمات عدّة،العثور لنفسه على بوصلة نحو فنِّ العيش، أو بكيفية أسمى فلسفة شاملة للحياة.

   ربما، يحيل فنّ العيش على اليومي، بينما يفضي الاستطراد الثاني غاية عتبات تسامي الأفق الوجودي.

   قد ينجح الإنسان بخصوص تحقيق أهداف شتى، ويصل إلى بلورة تطلعات ارتآها لمصيره الذاتي، مادية واجتماعية وموضوعية، تمثِّل عنوانا لاستحضار فردي بخصوص مستويات النجاح أو الفشل وفق اعتباطية معاييرها المجتمعية، يصبح سعيدا ويشعره ذلك بنوع من الاطمئنان والزهو والتباهي العُصَابي؛ إذا اختلَّ طبعا توازن تقدير الذات.

   يبقى مختلف النجاح المجتمعي، هدفا ظرفيا بلا حسٍّ وجودي عميق، ولا انسجام ذاتي، إذا انعدم الإطار الجوهري مثلما تبلوره أساليب كيفية العيش.  

   ليس السعي بالورش السهل، بل يستوعب جدوى وجوده، ماهية موته، وإلا تحول كل شيء لدى الإنسان إلى مجرد ركام للتِّيه وفوضى العبث، دون بوصلة مضيئة تبعث له معالم على امتداد دروب متاهة الحياة.

   لاشك، بأنَّ فن العيش يجسد بامتياز هنا، المنطلق والمنتهى، لتجليات حياة الإنسان.

  يقود فنّ العيش موجِّها خطى يوميات صاحبه، خلال حركاته وسكينته، فيغدو حقا حالة إنسانية قائمة الهوية ضمن أفق الاكتمال، يحيا بمشروع حقيقي، ينتعش برؤى، يتطور بفلسفة شخصية يعلم منطلقاتها وحدودها، تنظِّم وترتِّب الخيوط الناظمة لعلاقات الأنا بالآخر والعالم.

   لن أبالغ حين قولي، بأنَّ فنَّ العيش مرجعية تشمل حيثيات تصرفات واحتياجات وغرائز الشخص، ثم جراء ترسُّخ التقليد وتوطُّده، يصبح فلسفة عينية للذات، ترتقي بصاحبها حتما صوب أن يكون إنسانا، بالفعل والقوة، قد تجلت هويته الخالصة باعتباره حقيقة فردية استثنائية تختلف عن الجميع، بأن يتبنى فنّا للعيش، تصورا حياتيا لعيشه يثير ممكناته، يفتق رؤاه، يرشد معانيه، يبلور مفاهيمه، يؤطر تجاربه، يسود سلوكاته وممارسته المباشرة ثم المجرَّدة.

   هناك رؤيا أبعد كثيرا من رؤية، تلامس في ذات الآن تطلعات، العقل، القلب، الفكر، الحس، الشعور،حزمة تجليات تعكس بالمطلق، الذات حسب تعبيراتها المختلفة. لذلك، وجب التأكيد دون ضجر، بأنَّ الشخص قد يتحقق مضمونه تبعا لمعايير الجماعة، ويدرك باستمرار بناء على دواعي مقومات المضمار القيمي السائد، لكن استخلاص فنَّ العيش، يظل المعركة النوعية التي يلزم على الجميع إدراكها والوعي بها ثم خوضها، يشكل الانتصار أو الإخفاق، ضمن هذا النطاق، حقيقة الإنسان الأولى فيما يتعلق بجدواه وسط هذا العالم.

  يشمل فنُّ العيش تفاصيل الشرط الإنساني، من أبسطها حتى أكثرها تجريدا وتساميا: ماذا نأكل؟ كيف نأكل؟ لماذا نأكل؟ ساعات النوم والاستيقاظ، ترتيب البرنامج اليومي، امتدادات مجالي الخاص والعام. قد يذهب تفكير البعض نحو الامتعاض من هذا التصور، تحت مبرر البعد الشمولي لمرجعية تخنق أنفاس الفرد، تضبط إيقاع حريته، تحاصر مجال المبادرة لديه، بحيث يستحيل احتكامه تماما إلى مرجعية قائمة سلفا؛ ذات بعد واحد، كما الحال مع مسوغ فلسفة فنِّ العيش.

   بخلاف التصور المشار إليه أعلاه، فنُّ العيش وحدة ضمن المتعدد،وتعدد قوامه إثراء الجوهر البشري. يبلغ الفرد كماله الإنساني، يكشف عن فرادته التي تجعل منه وعيا ذاتيا بالمعنى الخاص للمفهوم، بمعنى امتلاكه رؤيا وجودية وحياتية، قبل ذلك، تمنحه القدرة على صقل هويته الذاتية، باعتباره أولا وأخيرا، محض حالة وجودية لايمكنها استنساخ النماذج والتجارب.

   افتقاد الشخص لآليات فنِّ العيش، يكشف عن غياب رؤية إلى الوجود، بالتالي، العيش بطريقة عشوائية دون إتيقا واضحة تلملم خيوط الضياع الإنساني، أو تضفي على ضبابية العبث الوجودي، شيئا من جلاء الرؤى.

   فنُّ العيش، مسألة ذاتية، يتبنى الشخص آلية تفعيله انسجاما مع تراكمات سبره لدلالات وقائع الحياة، من ثَمَّة، بقدر تشكُّل هذا الفن قطعا ومطلقا، بعدم الاكتراث إلى نمطية المعايير المجتمعية الجاهزة، يستمر رغم ذلك، مرنا قابلا للتطويع والتقليص والتطوير، حسب درجات الإدراك التي بلغها الإنسان. يأخذ هذه الوجهة أو تلك، يغير مرجعياته تعبيرا حقيقة عن مطاطية هواجس الذات، لكن وفق قصديات كبرى بعيدة المدى. هكذا، يتغلغل سياق فن العيش بين طيات التصور اللحظي للحياة والتخطيط العقلاني للمستقبل القريب أو البعيد.

   يجسِّد مفهوم فَنِّ العيش،الاستدلال الأكثر صدقا نحو كُنْه الحياة، يؤلِّف بين اللحظي والمابعدي، دون الإخلال بممكنات أيٍّ منهما، يقرُّ بالبعد الطارئ للحياة بسعيه التركيز على زخم اللحظة والآن والراهن، مثلما يمدُّ الإنسان بالإطار النظري والمنهجي، الذي يجعله سيِّد مصيره، حين استطاعته أخيرا، ممارسة حياته على ضوء تصور متكامل يُمنهج آليات ارتباط وقائع الحياة، والتعامل معها وفق الحس الوجودي المطلوب مقاميا، سواء حدثت بمنطق التوقع أو الفُجائية.

   كوجيطو فنّ العيش مقوِّم يستوعب لحظية الحياة، كما يرسم للحظاتها خَطّا مستمرا الزمان. أساس ذلك، استيعاب الإنسان لحقيقة وجوده، بحيث لن يتوقف منذئذ بخصوص ترتيب علاقاته بكيفية واعية مع تجليات الحياة باعتبارها لحظة وأفقا. يقدم وصفات، بهدف مماثلة نشاط الإنسان تبعا لسياق التحقق والمفترض، الراهن والرهان، الآن والممكن، إلخ.

   صحيح، لاينجح الإنسان دائما في تأسيس دلالة فن لحياته، فالمطلب ليس بالهين، يقتضي عنفوان صراع وجودي بين الذات والواقع غاية عثورها على حالة التكامل والانسجام، بين سياقها اليومي وأبعاده الوجودية.

   تنطوي فلسفة الأكل، على ذات  المرجعية الممتدة غاية تحقيق الوصال مع رمزية ثقافة المؤسسات الاجتماعية وكذا الاختيارات الكبرى للحياة، لافرق يذكر بين حلقة  المستويين.

  عموما، يحقق الإنسان بالضرورة، من خلال فنه المعيشي وأسلوبه الحياتي، بنية بيولوجية ومعنوية متكاملة الروافد، تتدفق بتعدد وحدتها عند ذات المصب. حينها، يكون الإنسان إنسانا، امتاز بالتخلص من دونيته المتربِّصَة.            

Visited 8 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي