الصراع بين شويغو وبرغوجين.. هل بالإمكان إجراء تعديلات في قيادة الجيش الرُّوسي؟
د. زياد منصور
بعد انتهاء هذه الملحمة برمتها والمسماة بـ “مسيرة العدالة”، وخاصة بعد خطاب يفغيني بريغوجين في روستوف على الدون، حيث كشف عن مطالبه لنائب الوزير يفكوروف وأليكسييف النائب الأول لرئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الرُّوسيَّة ـ GRU، توقَّع الكثيرون أنَّ لم يعد لسيرجي شايغو وزير الدِّفاع الوقت الكافي للبقاء في منصبه. ومع ذلك، مرَّ الوقت، وظل شايغو في منصبه.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم يتَّخذ فلاديمير بوتين قرارًا يبدو بسيطًا، كان بإمكانه وقف ما يحدث بين الوزير وقائد الفاغنر، قبل أنْ يحصل ما حصل؟
من الواضح أنَّ قرار إقالة الوزير أمرٌ بالغ الصعوبة لأسباب شتى، منها أنَّ السِّياسة التي يتبعها الرئيس فلاديمير بوتين بشأن الكادرات وآليَّة تعيينها، تظهر أنَّ الرجل لا يتسرَّع في اتِّخاذ مثل هذه القرارات. فاتخاذ قرار كهذا ليس من أسلوبه -فهو لا يغيِّر وزرائه بسهولة تحت ضغط من الخارج، أو تحت تأثير ظروف مفتعلة.
من المحيِّر أنه خلال هذا الصراع بأكمله، الذي أشعله بريغوجين بإصرار، لم يدخل وزير الدفاع مرة واحدة في سجالات علنية مع المتَّهِمين. لربَّما يعود صمت شايغو، إلى تأثير الرَّئيس بوتين على وزير دفاعه وخضوعه لقراراته، لأنَّ بوتين كان لا يريد السماح بمواجهة مفتوحة بين وزير الدفاع والمالك الفعلي لشركة خاصة في سياق مواجهة على أراضي دولة مجاورة.
في هذه الحالة لن يقوم بوتين بإجراء تغييرات كبيرة في الكادرات الأساسيَّة في وزارة الدفاع حتى يتم تسوية الوضع مع “موسيقيي” بريغوجين (يلقَّب أعضاء فاغنر بالموسيقيِّين)، كما أنَّ بوتين يدرك جيدًا أن اتهامات بريغوجين ضد شايغو مجرد اتِّهامات، وقد لا تكون لها علاقة بالذنب الحقيقي للأخير إذا كان هناك من ذنب. فالمشاكل داخل المؤسَّسة العسكريَّة كانت وبقيت قبل وقت طويل من وصول شايغو، وكان من الصعب على شخص واحد حلَّها جميعًا مرة واحدة، بل لهذه المشاكل أرضيتها حتى قبل وقوع العمليَّة العسكريَّة الخاصَّة بزمن طويل.
آفاق تغيير القيادة!
من المهم الإشارة إلى أنَّ التغيِّير في قيادة وزارة الدفاع سيأتي حتمًا في المستقبل القريب، وسيكون بعد تحليل عميق للأحداث الأخيرة ووضع الحلول البناءة المناسبة.
وهناك مخرج آخر لا يُستبعد حصوله، وهو أن يستقيل سيرجي شايغو بنفسه، لكن هذا لا يعني أنَّ حياته السياسية ستنتهي. سيبقى في الساحة السياسية طالما بقي فلاديمير بوتين. من المعروف عن بوتين أنَّه غير معتاد على التضحية بأولئك المخلصين له. ففي كل سنوات حكمه، لم نر مثل هذه الممارسات.
هكذا يصبح من الواضح أن تغييرًا في قيادة وزارة الدفاع قد يحدث في المستقبل القريب. ومع ذلك، تظل مسألة ما إذا كان القائد الجديد قادرًا على استعادة النظام في مثل هذه الظروف، التي لم يستطيع فيها شايغو والإمكانات المتاحة له تحقيقها يبقى هذا السؤال مفتوحًا على مصراعيه.
تغيير قيادات الجيش بعض من التاريخ!
من كان يظن أن قصة حصلت قبل مئتي عام، عندما تمَّ تعيين كوتوزوف ليحل محل رئيس الجيش الروسي، باركلي دي تولي، تتزامن مع الأحداث الغامضة الأخيرة في روسيا.
عندما وقف الفرنسيون علم 1812 بالقرب من سمولينسك، كانت موسكو في خطر مميت. قاد الجيش آنذاك باركلي دي تولي (فنلندي الجنسيَّة 1761-1818)، وزير دفاع بلاط ألكسندر الأوَّل، حينها شغل دي تولي منصب وزير الحرب. لم يكن يتمتع باحترام مرؤوسيه ولا يتمتع بنفوذ كبير في الجيش بسبب مجموعة من الظروف.
أولاً: كان نابليون قد دخل روسيا بالفعل، وكان رجاله يهاجمون وينهبون القرى الرُّوسية.
ثانيًا: أثارت أصول دي تولي حالة من عدم الثقة بين الجنود الروس. كان متَّهمًا بأنَّه مجرد جاسوس وعميل للغرب ولا يقاتل من أجل المصالح الرُّوسيَّة. لم يحب الضباط باركلي دي تولي أيضًا. على سبيل المثال، لم يتردد الأمير بيوتر إيفانوفيتش باغراتيون في إهانته واصفًا إياه “بالوغد”، والدنيء، بل الجبان باركلي”. بل ذهب ابعد من ذلك، إذ قال عنه: ” هذا ليس فقط مجرد قائد سيئ، بل سافل”، وإلى جانب ذلك كان يقوم بكل شيء من أجل خدمة العدو.
للمقارنة فإن الهجمات الإعلاميَّة عبر وسائل التواصل شبه اليوميَّة التي كان يشنها يفغيني بريغوجين على وزير الدفاع الحالي، كأنها تكرار حرفي تقريبًا مشابه للحملات التي قام بها القادة العسكريون في الحرب الوطنية عام 1812 فيما يتعلق بسلفه.
وهذه تنطبق على كلمات الفريق فلاديمير أليكسيف، الذي قال إجابة على مطلب بريغوجين “سنعتقل شايغو وغيراسيموف”، خذهم واعتقلهم. لنفترض أننا نغير باركلي دي تولي بمخائيل كوتوزوف (1745-1813) الذي اشتهر كوتوزوف بالانتصار الحاسم على جيش نابليون العظيم.
تم اختيار القائد العام الجديد من قبل كبار الشَّخصيات في الإمبراطورية. في مساء صيفي من شهر آب، اجتمع هؤلاء في شقة تعود لرئيس مجلس الدولة ولجنة الوزراء، الكونت نيقولاي سالتيكوف. كان من بين المرشحين، بالإضافة إلى كوتوزوف، جنرالات آخرين، لكن كوتوزوف كان الأكثر خبرة. لكن القيصر لم يكن يحبه: لم يستطع أن يغفر الهزيمة في أوسترليتز عام 1805.
لكن القيصر احترم دي تولي، لأنه كان قائدًا جيدًا، إذ أنه في معركة بروسيش-إيلاو الدموية (معركة آيلاو أو معركة برويش آيلاو التي وقعت في 7 و8 شباط- فبراير 1807، هي معركة دموية وغير حاسمة بين جيش نابليون الكبير والجيش الإمبراطوري الروسي)، قاتل فيها دي تولي شخصيًا، وأصيب بجروح خطيرة. في الحرب الروسية السويدية 1808-1809. ابتكر خطة جريئة لتحريك الجيش عبر الجليد مباشرة إلى السويد. وكان لدى باركلي دي تولي العديد من البطولات والمواقف الجريئة في هذه المعارك وغيرها.
ومع ذلك، وقع الاختيار يقع على كوتوزوف. تم استدعاء الأمير ألكسندر جورتشاكوف ليقوم بإبلاغ القيصر بقرار تنصيب كوتوزوف. عندما غادر الأمير ديوان القيصر، وفقًا لشهادة الجنرال المساعد المناوب في غرفة الاستقبال، كان وجه جورتشاكوف “حارًا كاللهب”. على ما يبدو، قال السكندر “بضع كلمات لطيفة” للمندوب. لدرجة أنه لم يكن يريد أن يرى كوتوزوف كقائد للقوات الروسية. ومع ذلك، وافق على قرار هيئته الاستشارية. وليس عبثا.
في 11 آب- أغسطس، صلى كوتوزوف البالغ من العمر 66 عامًا، راكعا على ركبتيه، في كاتدرائية قازان من أجل نصر الأسلحة الروسية. في اليوم التالي توجه إلى الجيش وأثار بهجة حقيقية بين الجنود، ورفع من معنوياتهم، فصاحوا: وصل كوتوزوف ليهزم الفرنسيين!
كان لا بدَّ من اتخاذ قرار صعب بترك موسكو والانسحاب منها لهزيمة فرنسا والغرب، فبدلاً من مهاجمة نابليون، بدأ كوتوزوف فجأة في اتباع خطة سلفه باركلي دي تولي. أمر القائد بالانسحاب من موسكو. دخل نابليون الكرملين، ولم يفهم أين ذهب الجيش الروسي. لقد تدرب الجيش وأعدَّ العدَّة لهزيمته .
هذا في التاريخ. لنعد إلى اليوم، إذ يبدو أن السيناريو الغامض الذي حصل يلمح إلى ما هو مطلوب من أجل تحقيق النصر، وإن كان الجيش الروسي لا يحتاج اليوم إلى مغادرة موسكو بالطبع.
فقط على موسكو أن تُفهم، أنَّ: شركات تمتلك الكثير من الملاءة الماليَّة، وشركات متخمة حتى الثمالة، وطائرات رجال الأعمال والفنانين وبعض الإعلام يصعدون طائراتهم ليفروا خارج بمجرد أن انبعثت من روسيا رائحة الشواء. في الواقع، من الأفضل أن “تغادر” موسكو، وإلا فلن يكون هناك بورودينو (معركة النصر على الفرنسيين ونابليون).