فرنسا.. جمر تحت الرماد
اليان سركيس
ما تشهده فرنسا اليوم، سبق أن عاشته في أحداث سابقة، لا سيما في العام 2005 عندما توفي شابين، بونا تراودي وزياد بنّة (17 عاما) في حادث صعق بالكهرباء، بعد دخولهما محطة كهرباء فرعية في منطقة كليشي سو بوا، بعد فرارهما من الشرطة وهو ما تنفيه السلطات.
الكل يتساءل اليوم هل ما يجري حاليا يستدعي كل هذه الإجراءات الأمنية واستخدام مدرعات ومركبات ومسيرات ونزول 45 ألف رجل أمن لضبط الأمور، وتشكيل خليه أزمة وإلغاء برنامج نشاط الرئيس الفرنسي في الخارج، واجتماعات مكثفة للحكومة لمواجهة الأوضاع التي باتت تهدد بما هو أسوأ.
لقد سبق لفرنسا أن شهدت أحداثا مماثلة وتمت معالجتها، لكن تطورات هذه الحادثة كانت أكثر حجما وأشعلت النار في الهشيم، وأخذت بعدا اجتماعيا وأثارت الجدل والأسئلة لدى العامة، هل سنقفل هذه الملفات التي تحدثنا عنها في الماضي أم سنبقى نتجرع الكأس المرة ونعيش حالة من المد والجذر، ويمكن أن تعالج المشكلة اليوم، لكن من دون حل المشكلات الحقيقية التي تكمن وراء تفجرها من حين لآخر ولا يتم علاجها بطريقة حاسمة؟
صحيح أن هناك مشكلة يعاني منها المجتمع الفرنسي متعلقة بتهميش الضواحي، ولا بد من معالجتها بشكل سليم لمنع هذه المشاهد المتكررة من فترة إلى فترة، والخروج من حالة التأزم الاجتماعي، صحيح أن الدولة الفرنسية صرفت الكثير على مشاريع للتطوير، ولكن للأسف لم تكن هناك نتائج ملموسة لها، لم يحصل الاندماج الاجتماعي الحقيقي من قبل المهاجرين في المجتمع الفرنسي، حتى الجيل الثالث منهم كذلك لم يحقق الاندماج المطلوب.
صحيح أيضا أن الأوضاع ستعود على ما يرام على الرغم من تخوف البعض من تذهب الأمور نحو ما يشبه حربا أهلية، لكن المشكلة الحقيقية لن ننتهي بشكل حاسم، فالمشكلة في الضواحي هي في عدم الانسجام مع ثقافة المجتمع الفرنسي ويجب معالجتها بشكل سليم لمنع تكرار هذه المشاهد المؤلمة.
بالطبع لا يمكن تبرير استخدام السلاح من قبل شرطي تسبب في مقتل الشاب نائل، وبالطبع يمكن تحقيق العدالة عبر القانون، لكن لم يكن هناك أي مبرر للحرائق والسرقات والتدمير، فهذه التصرفات العنفية من قبل الشبان الصغار المراهقين الذي يتم استخدام بعضهم من قبل أحزاب يسارية تسعى إلى تقوية نفوذها الانتخابي بين الفرنسيين المتحدرين من جنسيات أجنبية.
ما حصل كارثة وبالطبع نأسف على ما حصل للشاب نائل، ولكن هل هذا يبرر كل أعمال السرقة هذه وإشعال الحرائق في المدن الكبرى، وكلنا رأينا مشاهد لا يتصورها العقل، فهل نحن فعلا نعيش في فرنسا أم في بلد آخر، وهل نستحق هذا العقاب، والمطلوب جديا اتخاذ تدابير اقتصادية واجتماعية عادلة من السلطات الفرنسية لمنع تكرار مثل هذه الحوادث.
لا احد ينكر أن هناك بعض المظاهر العنصرية في فرنسا، لكن العنصرية موجودة في كل البلدان الغربية الأخرى، ومنها الأميركية والدول العربية، اتهام المجتمع الفرنسي بالعنصرية من قبل بعض النخب، لقد تم صرف أربعين أربعين مليار يورو على الضواحي، وهو مبلغ لا يستهان به، لكن المشكلة بقيت، وهي ناتجة عن عدم انسجام هؤلاء الفرنسيين من أصول أجنبية في المجتمع الفرنسي، إذ لم يلتزموا بالقوانين حيث لا تتطابق نظرتهم الاجتماعية في العيش مع القانون الفرنسي. هنا تكمن المشكلة. كما أن بروباغندا الأحزاب اليسارية تعدهم وتستخدمهم في معاركها السياسية، وللأسف الشديد تتسبب بمشكلات كبيرة جدا، لأنها تتغافل عن مشكلة دمج هؤلاء في المجتمع الفرنسي.
تستقبل فرنسا سنويا حوالي نصف مليون مهاجر سنويا، وهناك من وصل إلى مراكز حساسة بالحكم من أصول أجنبية وتولوا مناصب عالية في كل القطاعات، بالرغم من ذلك ما يزال هناك جمر تحت الرماد، لأن المشكلة بالحقيقة ثقافية قبل أن تكون اقتصادية، وهي لا تبرر كل هذا التجييش ضد المجتمع الفرنسي، كما أن المحكمة تصرفت قانونيا بسرعة وأصدرت قرارها بإيقاف الشرطي، لكن أعمال الشغب لم تتوقف، وقد لا تنتهي في القريب العاجل أيضا خصوصا إذا استمر استخدام صغار السن الذين بحسب القانون الفرنسي لا يحاسبون، إلا أن هناك اتجاه إلى تعديل هذا القانون ومحاسبة هؤلاء على أفعال العنف بفرض عقوبات مالية أو ما شابه، هناك من يستغل هؤلاء ويدفعهم إلى الشارع والقيام باحتجاجات تتخذ طابعا عنفيا وتحولها إلى ساحات حرب، وهو أمر خطير ومن غير المقبول أن يتخذ من هؤلاء المراهقين متراسا لسياسات معينة، فهؤلاء توفر لهم الدولة الفرنسية كل ما يلزم للتعليم وبناء مستقبل ناجح لهم، وهم ليسوا مهمشين أو أن الدولة تحاربهم، هم مواطنون فرنسيون وعليهم احترام قوانين الدولة والتصرف وفق هذا الأساس.