عمران البدوي: الدراسات القرآنية تعزز بناء الهوية والانفتاح
حوار عبد العزيز جدير
عمران البدوي نسيج خاص. انتقل بين فضاءات عدة، ولغات مختلفة، وما ذاق طعم الاستقرار الجغرافي قبل أن يحط الرحال عند دراسة تاريخ القرآن، والبحث في علاقة القرآن واللغة الآرامية، والديانة اليهودية والمسيحية. ولد في كوالامبور بماليزيا حيث قضى ردحا من طفولته، وانتقل رفقة والديه إلى العربية السعودية، ثم مصر فإنجلترا، ليستقر أخيرا في أمريكا.. كتب عدة كتب في الموضوع ذاته منها “القرآن وتقاليد الأناجيل الآرامية” (2013)، و”الإدانة في القرآن وإنجيل متَّى السرياني”… وأشرف على عدد آخر منها بحوث قدمت إلى المؤتمرات التي تعقدها “الجمعية الدولية للدراسات القرآنية”، التي هو المدير التنفيذي المؤسس لها. وهو أستاذ الدراسات الشرق أوسطية بجامعة هيوستن. جمع بيننا أكثر من لقاء تمخض عنه الحوار التالي:
فاكهة متعددة الأصول
– في البداية، طرأت على الذهن هذه الفكرة اللحظة يا عمران، قد يكون هذا الانتقال بين الدول، واللغات، والناس قد جعل منك كائنا أقرب إلى هذا الكاتب المثير للجدل تكوينه، وهويته، نايبول، حتى قيل كاتب بلا مجتمع ولا هوية قارة له. ولذلك سيستغرق في قراءة التاريخ، ويعنى بالمجتمعات التي عانت من الاستعمار ومنها الشعوب الإسلامية.. هل تحس ببعض ذلك؟
– لا، ونعم. نلتقي في العناية بهذه الشعوب، وحرية التفكير.. قد يؤدي هذا التنقل بالفعل إلى عدم الاستقرار الجغرافي، والعاطفي، والفكري.. ولا، لأن هويتي، كما تعلم، التي استقر عندها القلب والضمير هي العربية الإسلامية مع ما يفرضه الوضع العام من انفتاح على الغير أيا كانت قناعاته، وأفكاره.. نحن جزء من العالم، وهو جزء منا ونريد أن يكون لنا بعض الأثر حتى نكون أنفع للأوطان، والأمة، والعالم. تلك أمنية أعز ما تشتهى..
– والآن، كيف أتيت إلى حديقة الدراسات القرآنية؟
– أتيت إلى هذه الدراسات من باب الرغبة الملحة في فهم القرآن من خلال نصوص أخرى، وخاصة الكتاب المقدس، وكتابات تتعلق بالكتاب المقدس..
– مثلا؟
أقصد الاستعانة ببعض الأصول المنتمية إلى العصور القديمة السريانية واليهودية وما شابه ذلك. وكان أول كتاب صدر لي هو حول “القرآن، وتقاليد الأناجيل الآرامية”، باللغة الإنجليزية، (The Qur’an and the Aramic Gospel Tradtions)، وترجم إلى اللغة العربية وصدر قبل ثلاث سنوات، ترجمه صلاح إدريس من جامعة القاهرة، الذي يترجم من الإنجليزية أو الألمانية إلى العربية. والترجمة جيدة.
– حين نكتب كتابا في موضوع معين يعني أننا عاشرناه لمدة، وقرأنا حوله وفيه، وأتساءل عن البدايات.. منذ نبتت البذرة الأولى في الخاطر أو القلب..
– منذ الصغر حقيقة. في الواقع، لو عدت إلى أصلي تتوضح الأمور، نصفي عربي، من مصر، والنصف الآخر آسيوي. من ماليزيا من أصل هندي. بغلاف إسلامي. هذا الخليط الذي تتشكل منه هويتي جعلني دائما كثير الفضول المعرفي، أنظر إلى الخارج وأنا مقبل على فهم الدنيا، أتعلم اللغات، أحاول فهم الناس وتصرفاتهم، وقصة الحب الذي عشته كانت مع الجغرافيا. والجغرافيا تشمل العالم والناس، ولا تستثني شيئا. وكنت على الدوام أحاول أن أفهم نفسي أيضا.. لأظل محافظا على صلة بها، وأجعل منها نقطة التواصل مع هذه العوالم.
أتكون الذات هي المرجع؟
– الآن جاء دور هذا السؤال، أين الكائن الآتي من مزيج كائنات، وقارات، ولغات؟
– ولدت في كوالامبور في ماليزيا، قضيت بعض الطفولة في ماليزيا، والبعض الآخر في العربية السعودية، حيث اشتغل الوالد والوالدة هناك، وحياة الدكاترة حياة تنقل، وبعض التسكع الجغرافي، والرغبة الدفينة في أن يخوض الابن التجربة ذاتها، ويكون طبيبا مثلهما. وما اقتنعت بالمسار الذي اختاراه لي قبل الأوان. ولذلك أعتبر مرتدا في نظرهما إذ لم أذهب إلى كلية الطب، واخترت كلية الأدب. وتوفى الله الوالد وأنا صغير، وبقيت مع الوالدة وأخي وأختي، ونشأت في بيت تحت رحمة يد أم جمعت بين نقيضين: صارمة ورائعة، كل ذلك جعلني في وضع اضطراب، أبحث عن نفسي، وعن استقرار [أعرف العربية في ماليزيا، ولا أعرف الماليزية أو الهندية هناك]. وقد لازمني هذا البحث عن الاستقرار، إذ عشت حياة مليئة بالزعزعة، وعدم الاستقرار وبعض الاضطراب، ودفع بي وضع عدم الاستقرار إلى دراسة التاريخ، والثقافة، والأديان بنهم منقطع النظير، أعتقد ذلك. وبعد ذلك وجدتني أحط الرحال في حديقة الدراسات القرآنية.
– أيكون حط الرحال في قلب هذه الحديقة رغبة في وضع حد لآلام وربما جراح عانت منهما الروح والهوية؟
– طبعا، كل اضطراب يهز الروح يلتهم طمأنينتها، ينهك قوى صاحبها.. فيبحث عن مأمن، عن حضن يمنحه راحة الضمير، وبعض القوة لمواجهة مطالب الحياة والعيش..
– لو تحدثنا عن مسارك الدراسي؟
– درست مبدئيا في ماليزيا، وفي السعودية، وفي مصر، وفي بريطانيا، وفي أمريكا وسط ولاية نيوجيرزي.
– هذا التنقل المستمر بين الجغرافيات، والحضارات نسبيا، ماذا أعطاك؟
– الانتقال من ثقافة إلى أخرى يولد فيك الإحساس بالصدام الثقافي. مثلا، في كثير من البلاد التي حططت الرحال بها كانت حرية الفكر مقيدة، وهو ما يولد الحيطة والحذر.. وفي المقابل، في أمريكا كل شيء ممكن، حرية التعبير مكفولة والتفكير كذلك.
– ما الفترة التي قضيتها بمصر؟
من (1991) إلى (1996). كل بلد أقمت فيه، كل ثقافة نهلت منها، كل قارة عاشرت أهلها تعلمت منها مبادئ الحياة، ووقفت على اختلاف الناس من جهة، في مجالات معينة، والتشابه في أخرى. ولذلك أصبحت هويتي تنهل من هذه الثقافة، وتلك الثقافة ما استطاعت، وربما ما يفرض عليها، وأتلون بكل الثقافات إذ لا مفر من ذلك، ودون ذلك الانغلاق وبداية ضمور الوجود. كانت التجربة صعبة لأنني كنت صغير السن، وليس لأن إحدى تلك الثقافات كانت صعبة أو لا تفتح لك الباب لولوج كل غرفها. لذلك أقول دائما لزملائي وأصدقائي في صغري كانت الحياة صعبة؛ لأنني كنت صغير السن، وكنت تحت سلطة أم قوية، وكنا ننتقل من مكان إلى آخر، ونعيش عدم الاستقرار.. والآن، على كبر هذا يثريني، ويجعلني أفهم الناس، وأختلط بهم بسهولة كبيرة، وهو ما قاد خطواتي أن أكون أستاذا في الجامعة، ومؤسس جمعية الدراسات القرآنية، وأجلس إليك اليوم..
– ما القراءات الأولى التي انفتحت عليها في الآداب، والتاريخ.. وأنت شاب تعيش تحت العاصفة؟
– هناك أيضا مزيج من الكتابات مختلف ألوانها ولغاتها، منها مثلا كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق”، وكتب نعوم شومسكي، وكتاب لطه حسين، وناصر حامد أبو زيد..
– وكتابا لطه حسين؟
– في “الأدب الجاهلي”، وهو في الأصل “في الشعر الجاهلي”، سحرني الكتاب من البداية إلى النهاية. جعلني أعيش التجربة، إذ كنت أشعر، في تلك الفترة أني مثله، أو أود أن أكون مثله. أتمنى الارتقاء بالذات لأكون مثله. طبعا، هو مفكر، ينشد حرية الفكر، حرية الطرح.. ويتحدث طه عن الانسداد الفكري، وهو قديم جدا. وقبل طه حسين كان هناك محمد عبده. ويعتبر نصر أبو زيد هو حامل لواء حرية الفكر في الفترة الأخيرة، وفي المغرب تمثله فاطمة المرنيسي. هذا بنوع من الاختصار نوع الكتب التي همت بها وتمزج بين الإسلام، والحداثة، والغرب، والشرق. وهناك كتب تقنية جدا، منها التي تتناول التراث السرياني المسيحي، والذي نحن في حاجة إلى فهمه واستيعابه لنفهم القرآن، لأن القرآن يتحاور مع ذلك ويتكلم مع الكتب السماوية الأخرى. أنت تتكلم معي الآن، لابد أن أعرفك وتعرفني. الحوار بوابة الفهم، وتعميقه، وسبيل التواصل والتفاهم..
– انتقالك إلى أمريكا شهد متابعتك للدراسة..
– السنة الأخيرة من التعليم الثانوي، وتخرجت من جامعة الولاية، روتجرس. وقبل ذلك حصلت على الباكالوريوس في الإعلاميات، وما رغبت في إتمام الدراسة في ذلك التخصص ولو أنه واعد ويمكن أن يحقق بعض الغنى. ثم حصلت على الماجستير في مقارنة الأديان من جامعة تامبل بمدينة فيلاديلفيا، وارتكزت الدراسة على القرآن واللاهوت السرياني المسيحي، وبعد ذلك انتقلت إلى جامع شيكاگو وحصلت على الدكتوراه في موضوع القرآن وثقافة الأناجيل الآرامية..
حوار الملل من حوار النحل
– ما الآراء والأفكار التي حفلت بها الأطروحة؟
– بإيجاز شديد لا تخلو سورة وأحيانا سطر من القرآن من تناص منغمس مع الكتاب المقدس، وتفاسيره وتأويلاته بصفة عامة. ولو شئنا بعض التفصيل، هناك تناص شبه شامل أو واسع النطاق بين إنجيل يوحنا ومتى ولوقا ومُرقص والأناجيل الأخرى المعترف بها والغير معترف بها والقرآن الكريم. وكانت هذه الأطروحة -الكتاب تحليلا لغويا وأدبيا مقارنا بين القرآن وهذه الكتب التي ذكرتها جميعها.
– ما الجوانب التي تناولها التحليل الأدبي؟
– يتطلب الجواب حقيقة قراءة الكتاب لأنه في منتهى التفصيل، والدقة، والتقنية، وتناول ذلك بغير الغوص في التفاصيل لا يغني. ولكن، أقول لك هناك قصص مثل قصة أهل الجنة، وأهل النار وهم يتحاورون في سورة الأعراف، ويطلب أهل النار أن أفيدوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله؛ والقرآن نص مبهم، لا يستغرق في التفاصيل مثل الكتب السماوية الأخرى، ليس فيه ذكر للأسماء، والتواريخ، والأماكن إلا في سور قليلة جدا. وهذا يعني، أولا، أن جمهور القرآن، مستمعي القرآن كانوا يعرفون كل هذه القصص في الكتاب المقدس، وليسوا بحاجة إلى أن يقول إن الفرعون هو رمسيس الأول.. هذا الحوار، في سورة الأعراف بين أهل النار وأهل الجنة يبين أن القرآن نص مبهم، بمعنى لا يقدم التفاصيل. هناك أناس لا نعرفهم، ولكن إذا بحثنا وتمعننا في النصوص نجد أن في إنجيل لوقا ومتى، وخاصة في إنجيل لوقا هناك حوار بين عازر وأبراهام من جهة وهما في الجنة يتحاوران مع الرجل الغني، من جهة أخرى، وهو في النار. فهو يطلب من عازر اسأل ربك أو أبراهام أن يعطيني القليل من الماء فيكون الرد هذا ممنوع عليك لأنك غني وعشت حياة طويلة وعريضة، والآن أنت في الجحيم. هذا مثال واحد فقط. وإذا قرأنا كتب التفسير، من المرجح، لن نعثر على شيء يوضح كل هذا، لأن التفسير، كما هو الأمر بالنسبة لبقية التراث، يهتم بالشرع، والتشريع، والفقه، وقضية علوم القرآن الناسخ والمنسوخ والمكي والمديني نفسها، وهذه اهتمامات شرعية وليست اهتمامات تاريخية. هذا الطريق لفهم القرآن، مثلما إذا قرأت الطبري أو أي أحد آخر، وليكن الرازي، أو الزمخشري نفسه وهو صاحب التوجه الفكري المعروف، وهو الذي يقدم لك اثنا عشر معنى لكلمة واحدة حتى تتيه مثال ذلك استبرق.. وكأننا لم نفهمها وكأنه قدم لنا كلمة “تلفزيون” وهي غريبة عنا! وهذه الحيل وتعدد الاختيارات يهم القاضي، والمحامي، والفقيه، والمشرع. هذا هو منطق تراثنا، وهذا اهتمامه. وهو بذلك يختلف عن نقد النصوص.
– قد يعود الأمر إلى أنهم جميعا كانوا يفكرون بمنطق تأسيس الدولة، وتثبيت دعائمها. ألم يكن ذلك ضروريا في ذلك الوقت؟
– بالتأكيد، وهذا اهتمام مهم، وشيء جميل. ولكن كما قال رجل عظيم، هو أبو حنيفة: “هم رجال ونحن رجال”. نحن نفهم جيدا أنهم رجال، ونقدرهم، ونقدسهم؛ وهذا خطأ، ولكن لا نفهم ولا نقدر أننا رجال أيضا.
– ألا يعود هذا الاختلاف إلى أن كل عصر يطرح أسئلته الخاصة على أهله؟
– صحيح، نعم، نعم، وعلى كل أهل عصر، أي رجاله أن يجيبوا على هذه الأسئلة بالوضوح اللازم، والاجتهاد المطلوب..
– تحدثت عن التحليل الأدبي، واللغوي للنص الديني.. ما المقصود بذلك؟
– والتاريخي أيضا. على مستوى اللغة، إذا اعتبرنا التعبير كلمات، وتعبيرات، وقوافي، وأفكار، نجد في القرآن الكثير من صياغة هذه التعبيرات يأتي من خلفية كتابية سريانية أو عبرية. وهذا أمر لا يفاجئنا لأن القرآن في حالة تجديد ذلك الخطاب الذي ورد فيهما. مثلا، إذا قلنا “ويل يومئذ للمكذبين”، وتتكرر في سورة المنافقون، هناك أمران يلفتان انتباهنا، أولا من حيث الصياغة، هو قول نظير ما ورد في اللغة السريانية “وايل كن بريشه نصبا بايبابيه”، وترجمتها هي: “ويلكم يا رجال الدين، يا منافقين.” ويا أكلة اللحوم؛ الذين يمارسون النميمة.” وثانيا يضع هذا المثال يدنا على كثير من الأشياء ويمكننا من فهم كثير من الأشياء منها، أولا، أن القرآن في حالة تناص مع إنجيل متى، وإنجيل متى يشجب رجال الدين هؤلاء، فهل القرآن نفسه يشجب المجموعة ذاتها؟ هذا سؤال حقيقي، ولا بد أن نبحث فيه. وأعتقد أن الجواب هو نعم، القرآن لا يحب رجال الدين، ولا يحب رجال السلطة والسياسة. لأن القرآن يرى نفسه هو السلطة. وإذا نظرنا على المستوى الفيلولوجي، وهو أعمق شيء، نجد كلمتي ويلٌ لكم، التي هي ويلكم، وعلى مستوى التكرار، وعلى المستوى البلاغي، يوجد هذا التكرار أيضا في إنجيل متى، الآية ذاتها التي ذكرتها بالسريانية مكررة في نفس السورة/الفصل. تستحق كل هذه الاعتبارات أن نوليها كل الاهتمام، وهي لم تحدث بالصدفة، ولا ندخلها من باب الإحراج لأن هذا الأمر شيء عادي جدا. يأتي الإحراج بسبب تقديسنا التراث من دون موجب حق. وإغفال الفهم والاجتهاد..
– ألا يعود هذا التكرار إلى أن المسيحية جاءت لتلغي اليهودية، والإسلام اعترف بهما معا، وهو بذلك يحاورهما، وقد يبرر هذا الأمر هذا التكرار..
– أظن أن ما يمكن أن نتفق عليه، أنا وأنت، أن نسمع القرآن لا عبر صوت ابن عباس، أو ابن فلان.. قد يكون أحدنا مصيبا، والآخر مخطئا.. ولكن المطلوب هو أن نجتهد. كثيرا مما نقول إن القرآن يقول، والقرآن لا يقول، ويقول البعض القرآن حلل كذا، وحرم هذا.. ويتحدث البعض على حد الرجم، ولا وجود لحد الرجم. هناك أحاديث موضوعة، منتحلة، في هذا الصدد يعني. وإذا سألتني القرآن أتى ليتم ما أتى من قبل، ويجدد، ويصحح، لذلك يجب أن نعرف النصوص العبرية والسريانية، أقول لك هذا الأمر صحيح. في هذا الاتجاه، طبعا، نسائل مشكلة السلطة، والخلافة. والسلطة شكلت الديانة الإسلامية بطريقة معينة. يجب أن نفكك بعض هذه القضايا، ونقف على مكوناتها، ونربطها بسياقاتها، ونحدد دلالاتها.. وآنذاك نقترب من سعة معانيها..
التنوير العربي سطحي وشكلي
– قد تكون هذه وظيفة مثقفين، وهؤلاء أصناف، بعضهم يوالي السلطة، وبعضهم لا، أم بعضهم يوالي الحقيقة والاجتهاد…؟
– كيف يكتب سيرة رسول الله ابن إسحاق وحده، وهو يكتب للخليفة المنصور. يكتب تلك السيرة للمنصور لكي يمجده ويقول له أنت من آل محمد، وتاريخكم تاريخ أمجاد، وغيركم أدنى مرتبة منكم، وهذا الأمر يشكل مشاكل عويصة. ونحن مدينون له لأنه مصدر مهم جدا، لكن في الآن ذاته هو يكتب للملك، وأجره مدفوع، وهذا الأمر يجب أن نأخذه بالحسبان.
– في تاريخ الشعوب كان هناك مؤرخو البلاط، ولا أحد منهم سلم من الكتابة تحت الضغط أو الإغراء، ثم إنك أشرت قبل قليل إلى محمد عبده، وهو واحد من كوكبة المصلحين من أفرادها رشيد رضا، والأفغاني، والكواكبي فكرت في خلق نهضة تحرك واقع الأمة الإسلامية حين فكرت في تجديد الإسلام والعلاقة القدرية مع الغرب، وما كانت النتيجة كما توخت هذه الكوكبة.. وها نحن بعد قرن وقرابة العقدين..
– والنتيجة سيئة، ولا تجديد مس الحياة كما أراد هؤلاء المصلحون لم يتحسن الوضع، صحيح..
– بعد كل هذا الزمن الذي تسرب، ما ظهرت نخبة أخرى لتعيد التفكير في الوضع الجديد؟
– هذا سؤال كبير جدا، وليس بوسعي أن أتطرق إليه، ولكن. أتذكر أن هذا السؤال طرحته على علي مبروك، وهو مصري رحمه الله، وقد عرفت الأيام الأخيرة من عمره نشاطا كبيرا، وقبيل وفاته قبل خمس أوست سنوات، سألته السؤال ذاته، قال المشكلة أن بعض المثقفين العمالقة منهم محمد أركون، وناصر حامد أبو زيد، وفاطمة المرنيسي، وغير هؤلاء.. ويوجدون في كل البلاد العربية، قال لي: إن نفود الحراك التجديدي أو التنويري كان سطحيا فقط، كان يوجد على مستوى الشكل فقط، لم يكن يتوغل إلى السلطة، أو إلى العامة. وأنا أتفق مع هذا الرأي. ولكن لا أعرف ما هو الحل. مثلا، هناك كتاب لا أذكر صاحبه الآن، وأذكر العنوان باللغة الإنجليزية (Liberalism without Democracy)، [يقصد كتاب “ليبرالية من دون ديمقراطية: الأمة والمواطنة في مصر (1922-1936)، السياسة، والتاريخ، والثقافة”، تناول بعض هذا الموضوع. وهذا واقع أيضا. هناك مثقفون، ومواطنون من الجنسين يفهمون ويتقنون كيف نفهم ونستوعب الثقافة الإسلامية، لكن كيف نتعامل، ونتفاعل مع الدولة والسياسة اليوم، ومع المجتمع، ومع الشباب؟ هؤلاء الشباب الذين يخرجون كل يوم إلى الشارع، وينطفئون، ويموتون؟ هذا وضع كارثي. ويمكن أن أقول إن هناك أمورا تتعلق بالاقتصاد، والعدل.. ومسائل أخرى خارجة عن مجال عملي، وتفكيري، ولا يمكن أن أجازف بالأخذ فيها.
– صدر لك كتاب آخر باللغة الإنجليزية، أيضا، تحت عنوان (Communities of the Qur’an)، “جماعات القرآن، حوار، ونقاش، وتنوع في القرن الحادي والعشرين”، لو تناولت بعض ما جاء فيه؟
– الفكرة التي يدور حولها هذا الكتاب جماعات القرآن، أو جاليات القرآن، هي أن القرآن يجمع بين المجموعات المختلفة؛ وتتشكل هذه المجموعات من سنة وشيعة، وليس هذا الأمر مهما، إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم، وهذا ليس شأني. ومن هذه الجماعات أيضا البهائيون، والنسائيون.. وغير هذه التصنيفات كثير. والغرض من الكتاب أنه ضربة بالمطرقة على الطاولة للفت انتباه الجميع أن هذا هو واقع المسلمين اليوم، هم هكذا بهذا التنوع وعلى هذا الاختلاف، هكذا هم قراء القرآن اليوم. هذا واقعنا، نحن هكذا، لا نلازم المساجد، لا نجلس في حلقات، الأغلبية شبه المطلقة من كل هذه الفئات المتنوعة تحترم القرآن، تقدسه، ولكنهم جماعات أو جاليات متنوعة جدا.. والكتاب احتفاء، واحتفال، وتمجيد لهذا التنوع. ولا بد أن ننتزع من واقعنا الاحترام لبعضنا البعض، ولا نتبع خطوات التيارات المهيمنة من سلفية، واخوان، وولاية الفقيه.. هؤلاء يمثلون الأقلية، هم سلطة، وخطاب هذه التيارات لا يخصنا، الذي يهمنا هو أننا أناس عاديون، صوفية..
قلق الإجماع
– لست أدري ما قد كتب عن هذا الكتاب وكيف استقبل، ولكن يبدو أنه كتب من وجهة نظر أمريكية، بمعنى ليبرالية، أي الحديث عن الأقليات، ولو أنه يضيء بعض المسكوت عنه، وشبه المجهول في ثنايا العالم الإسلامي الذي انتشرت جالياته عبر العالم وربما تلونت بألوان المجتمعات التي تعيش ضمنها، وإن احتفظت بجوهر وجودها؟
– يمكن أن أقول لك، إنك على صواب إلى حد كبير، هذا من جانب، وذلك لأنني أمريكي من أصل عربي آسيوي خليط، وأشتغل ضمن مناخ فكري أمريكي، ومتأثر به وهذا أمر لا ريب فيه. لذلك في اختيار الموضوع وصياغته على هذا النحو، روح أمريكية وهو موضوع أمريكي صحيح. والأمر الثاني أن هذ المعطى لا يهم كما لا يهم أيضا في المغرب أو في مصر أو في إندونيسيا، أو في البوسنة.. في مجتمعات نقول عنها إسلامية تشهد هي نفسها كثيرا من التنوع، من الاختلاف بين المسلمين وغير المسلمين فيما بينهم. وهذا شيء طبيعي جدا، والشيء غير الطبيعي، وهو ما قد يزعج الكثير من الناس، وهو شيء اسمه الاجماع. الاجماع غير طبيعي، ولا يجوز إلا من خلال السيف. وهذا شيء نعرفه من خلال التاريخ المسيحي، وتاريخ الكنيسة، والتاريخ الإسلامي. من يمتلك السلطة قد يتجاوز المنطق، وروح الدين نفسه، ومن خلال ما قد تقرره أو تأمر به الهيئات الكنسية، وجماعة العلماء، ومن خلال المحن، والحروب، والعنف.. الإجماع على أي شيء أمر غير طبيعي. نذكر جميعا قضية المحن التي سببها المسلمون لبعضهم البعض في قضية خلق القرآن، والمناظرات، والامتحان.. وهذا الكتاب أو المشروع قد يتخذ شكلا أمريكيا ولكن مضمونه ينطبق على بقية العالم؛ لأننا نلتقي في المغرب نفسه بالصوفي، وغير الصوفي، والملتزم وغير الملتزم، والشيعي والسني، ومن درس خارج البلد ومن درس داخل البلد.. ويلاحظ وجود تعايش لا بأس به، في المغرب، تعايش كويس، ويجب أن نحافظ على هذا التعايش، ونكرسه. وهناك بعد ثالث لهذا المشروع، هناك في بعض جهات العالم، أصحاب مال، وأصحاب سلطة، ونفوذ عالمي هم من يوجهون المسلمين عبر خطوات، وسلوك، وتصرفات من ذلك ظاهرة الحجاب، وإطلاق اللحية.. أو ظاهرة “خوضا” الفارسي، يعني “الله يحفظك، وكيف أصبح بعض المسلمين يقولون “الله حافظ” وهو قول يروج بين الهنود. من أين أتى هذا التأثر؟ واقع الحال يقول إن الحضارة العربية ليست بصحة جيدة. هناك نفوذ للحركة الوهابية، وهناك تعزيز لهذه الحركة من أمريكا. وهذا موضوع سياسي بحث.
تعزيز معرفة الهامش للمحور
– كتابك المثير من حيث المضمون، وقد اخترت له عنوان “ملكات وأنبياء”، يحفر في قضايا من الهامش؟
– الهامش الذي يرغب في إثارة قضايا لا يعنى بها المحور. كتبت هذا الكتاب عن الملكات العربيات في العصر الجاهلي، وتأثيرهن على رجال الدين آنذاك. وهذا الكتاب يلفت الانتباه إلى ظاهرة قلما انتبه إليها باحث؛ لأنه يتساءل عمن يملك السلطة، من الذي يملك القوة الروحية، والسلطة الدينية: الرجل أم المرأة؟ هل هو النبي أم زوجته؟ أعالج الموضوع بحياد، وأحلل الوقائع، ولا أنتصر إلى جانب أو طرف أو فكرة. وفي تلك الحقب، تصادفنا ملكات ملكن من القوة والبأس الشيء الكثير، وكن يعطين السلطة لرجال دين، أو لأسقف، أو لنبي أحيانا.
– لو ذكرت بعض النماذج لهؤلاء الملكات؟
– هناك زنوبيا، وتذمر، والملكة ماوية التنوخية.. واسم ماوية كثير التردد في الأيام العربية، وفي كتب الإغريق أيضا. وهناك السيدة خديجة، حفيدة مؤسس السد، وهو فخذ من قريش، وهي من سلالة نبيلة. ويتناول الكتاب حياتها قبل مجيئ الإسلام وبعد مجيئه لأنها شخصية مهمة جدا. نعرف النبي محمد جدا، لأنه من حمل الرسالة، ومؤسس الأمة، ونعرف عنها أنها كانت ثرية جدا، وعلى المستوى المادي كان لها الأثر الأكبر في منح الرسول البعد الإنساني، والتعامل التجاري، وسعة المعرفة بالناس، والمعاملة، والمستوى المادي..
– لو عدنا الآن إلى الجمعية الدولية للدراسات القرآنية، كيف طرأ تأسيسها على الذهن، وتسطير أهدافها؟
– أسست هذه الجمعية بمعية زميلي البروفيسور گابرييل راينولدز في الولايات المتحدة الأمريكية، وكنا حصلنا على منحة من خلال إس بي ل، وهي “جمعية لدراسة الكتاب المقدس”. وكل هذه الجمعيات ليست جمعيات دينية، وهو ما يصعب علينا فهمه في العالم العربي، ولكنه واقع عرف التكريس في أمريكا، لأن كل شيء مستقل. كل شيء يرتبط بالبحث، وكل شيء يتميز بالطابع المدني، الدنيوي. لما حصلنا على هذه المنحة شرعنا في العمل. وتقوم أهدافنا على بناء جسور، بصفة عامة، بين الشرق والغرب، بين المسلمين وغير المسلمين، وتبادل الآليات، ونتائج البحث أيضا للتعلم من بعضنا البعض. وهناك أمور تقنية نسعى إلى تحقيقها، وذلك لأن الأهم في هذا الجهد هو تعزيز دراسات القرآن والرقي بها إلى مستوى رفيع مما هو عليه الآن. لأنه ليس لدينا دراسات قرآنية في العالم العربي الإسلامي بالشكل الذي ينبغي أن تكون عليه نظرا لعدد الأساتذة المتخصصين، واللغات التي يتقنون، وإمكانيات المقارنة، والتمكن من المعرفة الواسعة والدقيقة بالتاريخ العبري والمسيحي وبكتابي الديانتين… وذلك من خلال نقد النصوص، وتاريخ النصوص، وهذا أهم شيء. وهو الأساس: أن ندرس النص كنص أدبي، قابل للتقدير، قابل للنقد، للمقارنة مع النصوص الأخرى، للحوار معها.. هذه البداية، ومنها دراسة مقارنة بين القرآن والكتاب المقدس، ودراسة الشعر، والأدب العربي.. والخلاصة، أن نبحث باحترام وحرية. نحترم بعضنا البعض، والعقائد، وننعم بحرية القراءة والبحث والتحليل، وإلا وقعت الجمعية على حكم الإعدام الذاتي..
– أعود إلى السؤال، طرأت فكرة الجمعية على ذهنك بشكل شخصي أم وأنت رفقة گابرييل راينولدز، وتم الاتفاق بينكما؟
– ليس هناك علاقة بين الأمرين. طرأت الفكر على ذهني، وكان قد مضى على تعرفنا زمن طويل نسبيا. وتعلمت منه أشياء، وأعتقد أنه تعلم مني أشياء أخرى، واتفقنا على أهمية الفكرة، ووجوب إخراجها إلى حيز الوجود.. ونحن ننظم كل سنة مؤتمرا داخل الولايات المتحدة وننتقل من مكان إلى آخر داخل البلد مثل سان دييگو، شيكاغو، بوسطن.. وكل سنتين ننظم مؤتمرا في العالم الإسلامي (إندونيسيا، وتونس، والمغرب، وفي باليرمو ثلاث مرات بالبحر الأبيض المتوسط)، جزيرة حكمها أناس من كل بقاع العالم من عرب، وأفارقة، ونورمان، وإنجليز.. وثقافتها مزيج من الثقافات المختلفة والمتنوعة
وقد لاحظ عدد من مفكري الغرب أن العرب لا يملكون الشجاعة الأدبية، والفكرية لقراءة تراثهم وفكرهم بموضوعية وتجرد واستخلاص الخلاصات العلمية الدقيقة. كما يقومون هم بذلك في قراءة تراثهم وفكرهم. وهنا يكمن جزء من أهمية وجود الجمعية.