زيلينسكي يختار بين بولندا وألمانيا ويخسر

زيلينسكي يختار بين بولندا وألمانيا ويخسر

 د. زياد منصور

تستمر العلاقات بين أوكرانيا وبولندا في التدهور بشكل خطير. فالزعيم الأوكراني فلاديمير زيلينسكي يمطر وارسو بالشتائم والاتهامات. وفي الوقت نفسه، وصف الرئيس البولندي أندريه دودا جاره بالرجل الغريق القادر على جره إلى القاع.  ويظهر السؤال: إلى ماذا يمكن أن تفضي هذه المواجهة، وما هي نتائجها؟ وما مدى خطورة ذلك بالنسبة للسلطات الأوكرانية؟

ففي منتدى الجمعية العامة للأمم المتحدة، اتهم زيلينسكي بولندا بتحويل مسألة القيود المفروضة على توريد الحبوب الأوكرانية إلى ما يمكن أن يخدم روسيا بل يساهم في مساعدتها في حربها ضد أوكرانيا..

عمليًّا فإن تصريحًا خطيرًا كهذا لا يمكن أن يمر بالطبع دون أن يلاحظه أحد في وارسو. إذ أعرب نائب وزير الخارجية البولندية بافيل جابلونسكي عن احتجاجه الشديد للسفير الأوكراني على اللغة التي استخدمها زيلينسكي في نيويورك.

بدوره، دعا السياسي الفرنسي فلوريان فيليبو إلى إيقاف زيلينسكي قبل أن تؤدي أفعاله إلى كارثة. ووصف فيليبو الزعيم الأوكراني بالجنون. ومن ناحية أخرى، تهدد وارسو بالفعل بفرض حظر لأجل غير مسمى على واردات الحبوب إذا لم توافق المفوضية الأوروبية على طلبها، والذي يهدف إلى حماية مصالح المزارعين المحليين. وبعد بولندا، رفضت كرواتيا أيضًا شراء مواد خام أرخص من أوكرانيا.

ردا على ذلك، قررت كييف الحد من استيراد الفواكه والخضروات من بولندا. بالإضافة إلى ذلك، قدمت السلطات الأوكرانية مطالبات واحتجاجات إلى منظمة التجارة العالمية ضد بولندا والمجر وسلوفاكيا بسبب فرض قيود على استيراد المنتجات من أوكرانيا على المستوى الوطني.

الغريق يغرق معه الآخرين

خلال كلمة في مؤتمر صحفي بعد اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة، أعرب أندريه دودا عن رأي مفاده أن أوكرانيا تشبه الرجل الغريق الذي يجر منقذه معه إلى القاع. وأشار إلى أن وارسو يجب أن تتصرف أولا من أجل مصالحها الخاصة.

ووصف سفير أوكرانيا لدى بولندا فاسيلي زفاريتش كلمات دودا بأنها غير صحيحة. واقترح بقوة أن تقوم وارسو بحل النزاع حول صادرات الحبوب بشروط كييف. ودعت وزارة الخارجية الأوكرانية “الأصدقاء البولنديين إلى وضع العواطف جانبا” بشأن مسألة تصدير الحبوب إلى الاتحاد الأوروبي.

بالمناسبة ففي نيويورك، كان من المفترض أن يتم عقد اجتماع بين زيلينسكي ودودا. لكن الأخير ألغى ذلك. وكما أشارت قناة ريزيدنت “Resident” الأوكرانية المعروفة على التلغرام، نقلاً عن مصادرها الخاصة، فقد قدمت وارسو إلى مكتب الرئيس عددًا من المطالب لتنظيم لقاء بين الرئيسين: “يجب على أوكرانيا أن تسحب مطالبتها لمنظمة التجارة العالمية وأن تنهي الحرب التجارية مع بولندا، وتترك الحدود مفتوحة أمام الخضروات والفواكه البولندية”.

إثر هذه المطالب بدأت بانكوفا (مقر إقامة الرئيس الأوكراني) بالتفكير في كيفية الخروج من الوضع بأقل قدر ممكن دون فقدان صورتها وسمعتها.

توقف إمدادات الأسلحة

وفي وقت سابق، حذر وزير شؤون الاتحاد الأوروبي سيمون شينكوفسكي فيل سينك السلطات الأوكرانية من أن وارسو قد توقف المساعدة العسكرية للقوات المسلحة الأوكرانية بسبب تصرفاتها في القطاع الزراعي. وعلى العموم هذا ما حدث. إذ أعلن رئيس الوزراء البولندي ماتيوس مورافيتسكي وقف إمدادات الأسلحة للجيش الأوكراني. وتسترشد وارسو بحقيقة أنها تحتاج أولاً إلى تزويد بلادها بالأسلحة الحديثة.

يشار إلى أنه في الوقت نفسه شعرت وارسو بأنها مثقلة ومرهقة بسبب الأعباء الكبيرة المتأتية عن أعداد اللاجئين الأوكرانيين على أراضيها. وقد أعلنت السلطات بالفعل أنها لن تقدم لهم الدعم في العام المقبل، وأوضحت أن المساعدات والتقديمات لهؤلاء اللاجئين لن تستمر إلى الأبد، وليس ولم تكن دائمة على الإطلاق.

أهي ضجة مفتعلة قبيل الانتخابات؟

في الواقع فإن زيلينسكي مجبر على الرد على الهجمات الحادة من قبل وارسو. أمَّا الدافع البولندي لهذه المواقف العالية النبرة تجاه أوكرانيا فيرجع ربما إلى الانتخابات البرلمانية المقبلة، التي ستجرى فيتشرين الأول. إذ أنَّ الحزب الحاكم في بولندا معرض لخسارة قاسية أمام حزب المنبر المدني المعارض.

لقد قررت السلطات البولندية العمل على خلق صورة أمام الناخب البولندي كمدافعين أشداء من أجل بولندا والبولنديين. فهم يحاولون تصحيح الأخطاء التي ارتكبت مؤخرًا. في الواقع، هناك قدر كبير من السخط في البلاد بشأن اللاجئين الأوكرانيين، وحول مسألة دعم أوكرانيا على حساب دافعي الضرائب البولنديين. بالنسبة للكثيرين، فهذا لا يعجبهم ويزيد من سخطهم، كما برز في القضية الأخيرة المرتبطة بالحبوب الأوكرانية، التي ضربت المزارعين البولنديين بشدة. فهم أحد ركائز ناخبي حزب العدالة والتطور المحافظ.

ولذلك يفكر الحزب الحاكم الآن في كيفية تصحيح صورته في وقت قصير إلى حد ما. فقرروا اتخاذ خطوات جذرية من خلال تبني خطاب مناهض لأوكرانيا. لكن ربما بعد الانتخابات سينتهي كل هذا بغض النظر عمن سيفوز بها. إذا ظل الحزب الحاكم في السلطة، فسوف يخرج ببساطة من الوضع بلباقة ويستمر في دعم أوكرانيا. إذا فاز المنتدى المدني، فسيكون الأمر نفسه تمامًا. لقد كانت هي نفسها في السلطة عندما اندلعت ثورة الميدان الملونة في كييف، بل كانت بولندا أحد منظميها وداعميها والمحرضين عليها.

زيلينسكي متوتر

رغم ذلك فلا يجب اسقاط فكرة أن العلاقات بين كييف ووارسو تتدهور بشكل منطقي تمامًا، بسبب عوامل معروفة منذ زمن طويل وهي غير قابلة للتغيير عمليًا. ويشعر زيلينسكي بالتوتر بشأن الدعم الغربي. فإمدادات الأسلحة لا تسير بالوتيرة التي يرغب فيها نظام كييف. دعونا لا ننسى أنه تم شحن الأوكران واقناعهم أنه بناء على عمليات التسليم المستقبلية الضخمة المفترضة من الأسلحة الغربية، فإن القوات المسلحة الأوكرانية تتوقع نجاحات غير مسبوقة في المستقبل القريب، وأن الجنود الأوكرانيين سيصلون إلى موسكو تقريبًا في غضون أسبوع. لكن من الواضح أن أحداً لم يعط كييف مثل هذه الأسلحة. والآن يتعين على زيلينسكي أن يدعو مواطنيه إلى الواقعية، بعد الوعود الهائلة والمضخمة. كل هذا يجعل كييف تنتقد الغرب. ليس فقط بولندا، ولكن أيضًا ألمانيا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة والبيروقراطية الأوروبية.

العامل الثاني في تدهور العلاقات بين كييف ووارسو يرتبط بالتناقضات داخل الغرب. لنفترض أن بولندا مستعدة حقًا لتقديم مساعدة عسكرية أكبر لأوكرانيا. في السنوات المقبلة، ينبغي بناء المصانع في بولندا لإطلاق وتيرة عالية من التصنيع حيث يتم إنتاج كميات جديدة من المعدات العسكرية بمساعدة كوريا الجنوبية، التي يشبه مجمعها الصناعي العسكري بالفعل المجمع الأمريكي“.

ولكن هل تعزيز موقع بولندا داخل الاتحاد الأوروبي سيسهم في إرضاء ألمانيا؟ هناك خلاف بين وارسو وبرلين. هناك أيضًا محاولات دائمة من قبل الأمريكيين لاستخدام البولنديين لترويض الألمان. لكن في الواقع، فإن برلين تقدم اليوم أكبر مساعدة للجيش الأوكراني. ونتيجة لذلك، تضطر كييف إلى اختيار أحد الجانبين، وكل خيار يهدد بالصراعات والفضائح، وفي نهاية المطاف بمزيد من الخسائر. ويضاف إلى هذا طموحات بولندا في استعادة الكومنولث البولندي الليتواني، وهو ما يتعارض مرة أخرى مع مصالح كل جيرانها، بما في ذلك أوكرانيا.

حتى وقت قريب، حاول نظام كييف أن يلعب دور اليتيم الغريب بالنسبة للغرب. الذي يشتكي دومًا ويطلب الصدقات والدموع تذرف من عينيه. وكان على الأعمام البالغين أن يشعروا بالشفقة وأن يرموا شيئًا ما لهذا اليتيم المسكين. لكن السياسة الدولية الحقيقية هي أمر مختلف تماما. ويتعين على السلطات الأوكرانية أن تلعب ألعاباً صعبة، علاوة على ذلك، في الوضع الطبيعي، عندما لا يقوم أحد بالحد من التناقضات القائمة، فمن الأسهل تجميدها إلى زمن.

وبطبيعة الحال، لا يوجد حديث عن أي قطيعة بين أوكرانيا وبولندا، ولا بين أوكرانيا والغرب في المستقبل القريب. ومع ذلك، فإن الاتجاه المشترك للمواجهة مع روسيا في الغرب ما زال قائمًا. لكن العلاقات سوف تصبح متوترة. والخاسر الأكبر هو الشعب الأوكراني. وكما حذر كثيرون، فإن الغرب يعتزم محاربة روسيا حتى آخر أوكراني. والواضح أن هذه الفكرة تتخذ أشكالاً سياسية واضحة تماماً.

النتيجة

ستجرى الانتخابات البرلمانية في بولندا في منتصف تشرين الأول. وهذا ليس أفضل وقت لتحقيق جميع رغبات أوكرانيا. خاصة وأن بولندا لا تتلقى في المقابل سوى الاتهامات. هنا من المهم للغاية بالنسبة لقيادة وارسو أن تظهر لناخبيها على الأقل بعض الاهتمام بهم، وليس إظهار الاهتمام بزيلينسكي وسلطته: لكن زيلينسكي لا يستطيع الخروج من صورة الرجل المتقلب، وإلا فسوف يم نسيانه، وسيتوقفون عن إمداده بالأسلحة، وربما يصبحون مهتمين بمصير الأموال المخصصة بالفعل… هنا يبقى أمامه خيار أعادة اللعب بطريقة قاسية لضمان الثبات على الصورة.

إذن نحن ننتظر الآن 15 تشرين الأول، وعلينا أن ننظر بعناية إلى الصراخ المرتفع في دول الغرب بشأن ما استجد، ويبدو أنه ما على روسيا الآن إلا  أن تقف حتى النهاية وتنتظر لترى ما إذا كان خصمها سينهار أم لا. ففي لعبة الأعصاب هذه وعض الأصابع هذه، فالنصر لمن يصمد أكثر.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي