الصحفي وائل الدحدوح: هوية غزة
سعيد بوخليط
ليس في وسع كل البشر أن يحيوا حياتهم، فعلا عند مكمن الحياة، ثم القدرة على خوض تفاصيل أن يكونوا ضمن مجرى هذه الحياة، ليس بعيدا ولا قليلا أو فقط الاستنجاد بتلابيب هوامش الهامش.
إنَّهم، هناك، حيث أرادوا لمصيرهم أن يكون على طريقتهم، فيقولوا مايودون قوله ثم يمرُّوا، وقد أحكموا ممكنات أثر وجودي، فيرتقون بكينونتهم صوب الثابت والراسخ.
طيلة سياقات فترات اندلاع حرائق غزة، نتيجة الاكتساح الهمجي الإسرائيلي، خلال جولات سنوات (2008،2012،2014،2021،2022)، حضرت بكل سخاء دون تخاذل أو تقاعس،شخصية الصحفي الفلسطيني المتميِّز وائل الدحدوح، كي يلاحق بصدرٍ عارٍ تماما؛ سوى من دِرْع العبارة والكلمة والصورة، مختلف بصمات مذابح تلك المدينة المحاصرة بقسوة والمتعبة، قصد فضح خبايا المجزرة وطرحها بجلاء رهن ضمير كلِّ العالم، بصوت هادئ وَجُوم، تغلب عليه نبرة وداعة وحزن، تضمران أحزانا دفينة، غير قابلة بتاتا للتَّلف، ثم سلاسة توثيق بليغ، منساب بتركيز دالٍّ يستوفي بين طيَّات خطاب واضح مضامين شهاداته المباشرة والمرتجلة.
لم يخذل قط وائل حمدان إبراهيم الدحدوح مدينته غزة، مسقط رأسه،حيث ولد في حي الزيتون يوم ثلاثين أبريل سنة ألف وتسعمائة وسبعين، وترعرع في كنف أسرة ميسورة، مرتبطة بعطاء الأرض موصولة بالإنتاج الفلاحي و زراعة الأرض.
خَبِرَ الدحدوح جيدا يوميات القهر داخل معتقلات الاحتلال، فقد اعتُقِل سنة ألف وتسعمائة وثمانية وثمانين، مباشرة بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، كي يقضي حقبة في السجن دامت سبع سنوات.
استأنف، بعد استعادة حريته، تحصيله العلمي بداية نيله شهادة بكالوريوس الصحافة والإعلام من الجامعة الإسلامية في غزة، ثم درجة الماجستير في الدراسات الإقليمية من جامعة القدس عام ألفين وسبعة.
قبل التحاقه بقناة الجزيرة القطرية سنة أربعة وألفين، تمرَّس بداية على لبنات صياغة و كيفيات تدبيج الخبر الصحفي؛ مراسلا لعدة منابر إعلامية.
بالتأكيد، إبَّان أشواط البطش المتعاقبة دوراتها، ظلّ اهتمام الرأي العام منصبّا طبعا على غزة والفلسطيني عموما، لكن هذه المرة تقاسم حيِّز أضواء هذا الاهتمام بكيفية واضحة صنيع وائل الدحدوح. لم يعد الأخير، مجرد إعلامي مشهور لدى المهتمين بما يجري، يسكن عند فوهات مدافع المعركة بكل ضراوتها؛ قصد فضحه لحظيا مايحدث.
البداية الفعلية لمراحل انطلاق محاكمته من طرف الإسرائيليين، كونه أسرع مساء السابع عشر أكتوبر نحو مستشفى المعمداني في حيِّ الزيتون، قصد التبليغ العيني بصمت الصورة عن مجزرة حوَّلت إلى جثث متفحمة أو رماد؛ في أفضل الأحول، خمسمائة فلسطيني احتشدوا داخل البناية الصحية اتِّقاء من عربدة القصف، مثلما تنصُّ على ذلك أدبيات المواثيق الدولية. لذلك، بدا ضروريا وضع رأسه ضمن قائمة المطلوبين للمقصلة،حتى يخرس إلى الأبد، فأدَّى ثمن واجبه المهني غاليا جدا بأن أعدمت قنابل الاحتلال يوم خمس وعشرين أكتوبر، زوجته وولده وابنته وحفيده، بعد نزوحهم إلى مخيم النصيرات وسط قطاع غزة.
لم تنقض غير فترة قصيرة، على هول الإنذار الأول، ثم نتيجة استمرار تمسُّك الدحدوح بتماسكه، كاد بدوره أن يفقد حياته وفق ذات السيناريو المعلوم، بيد أنه نجا بمعجزة خلال واقعة إعلامية حربية أودت بحياة صديقه المصوِّر الصحفي سامر أبو دقة يوم خمسة عشر ديسمبر، حينما تعرَّضا معا للقصف بجوار مدرسة حيفا في خان يونس. أصيب الدحدوح، بجروح بليغة على مستوى يده.
بعد فترة نقاهة معدودة ساعاتها، انبعث ثانية كي يستأنف نشاطه الإخباري المقدس، بكل هِمَّة ورباطة جأش وإيمان أسطوري بالقضية والإنسان، مستندا على حافز مرتكز لازِمته اللغوية: ”معليش” (لا بأس)، مثلما ردَّدت شيرين أبو عقلة جملتها: ”بِدْها طول نَفَس، خَلِّي المعنويات عالية”، قبل أن تكتم نَفَسَها نهائيا غدر رصاصة قنَّاص إسرائيلي شهر مايو سنة ألفين واثنين وعشرين.
تواصلت وتراكمت أوجاع الدحدوح النوعية، فلم يغادر بعد أجواء عزاء زوجته وأبنائه، حتى اكتسحته مرة أخرى ضربة مؤلمة للغاية؛لاتقل ضراوة عن ما سلف، حينما استهدف قصدا صاروخ يوم السابع يناير سنة ألفين وأربعة وعشرين، حياة نجله البكر حمزة الدحدوح؛ الصحفي أيضا ضمن فريق قناة الجزيرة، أثناء تأديته واجبه المهني بتغطية القصف في منطقة رفح جنوب قطاع غزة: ”ماضون رغم الحزن والفقد، باقون على العهد في هذه الطريق التي اخترناها وسقيناها بالدماء… يحزن الإنسان ويتألَّم للفقد فكيف إذا كان الولد البكر؟”. بهذه الكلمات، عَقَّبَ الدحدوح على رحيل ابنه، باكيا فاجعة رحيله.
منذئذ أضحى الرجل حقا، رمزا من رموز أيقونات المشروع الفلسطيني التحرّري، بحيث لم يعد ممكنا ذِكر أسماء ملهمة وقائدة: ياسر عرفات، أبو جهاد، جورج حبش، نايف حواتمة، أحمد ياسين، ناجي العلي، محمود درويش، سميح القاسم، دلال المغربي، شادية أبو غزالة، مروان البرغوثي…، دون الوقوف بذات نبرة الإجلال والاحترام على اسم وائل دحدوح.
صحفي مبدئي، رصين، تنتسب جينات تشكُّله الذهني والنفسي إلى زمن عالم الأفكار والقيم والقناعات الجوهرية. قويّ، جبار، شهم، بحجم رصانة وقوة وتجلُّد وشجاعة الشعب الفلسطيني العظيم، الذي أبدع للإنسانية دروسا كبيرة بغية استيعاب الحياة وبلور مفاتيح بلوغ كنهها. يقول الدحدوح بتحسر: ”كأنَّ العالم لايكترث ولايهتم بما نتعرض له في فلسطين وهذا الأمر يؤلمنا”.
عموما، كيف بوسع الفرد إدراك كمال معين في خضم لا اكتماله، بالمكابدة ومدى القدرة على استنتاج حيثيات الخسائر الوجودية المتتالية؟ هكذا ترتسم عتبة نحو القدرة على تقليص فجوات اللااكتمال، وبلوغ الفرد معاني الكمال في ذاته ولذاته. بناء عليه، تنطوي تجربة وائل الدحدوح بهذا الخصوص على قيم صلبة تُستخلص للتاريخ حيَّة من قلب المعركة، وتُكتب للأجيال الحالية والقادمة بحبر شلالات دماء قوافل المستضعفين فوق هذه الأرض، يخوض رفقة شعبه معركة مثالية دفاعا عن قضية عادلة، دون أقلِّ نزوع أناني أو شخصي أو أداتي أو دعائي، بل حافظ لمهمته على بعدها الإنساني الخالص، بالتالي استحق ولوج بوابة التاريخ من جغرافيته الواسعة.
يُجْمل الدحدوح مايفعله بقوله:
“لن تثنينا الأثمان التي ندفعها عن مواصلة رسالتنا الإنسانية النبيلة المقدسة التي يفترض أن القوانين الدولية والإنسانية كفلتها ووفرت الحماية الكافية واللازمة للصحفيين لكي يؤدوا دورهم في ظل الحروب والنزاعات”.
إن حدث وتوقفت ربما هذه الجولة الحربية لفترة استراحة ليست بالقصيرة! وغادر الدحدوح نحو سكينة ذاته قصد أخذ قسط لنفسه، ثم يشرد بسكينة وهدوء مطلقين كي يستعيد على طريقته شريط الأحداث، حتما سينزوي إلى زاوية متوارية تماما كي يبكي وحده طويلا ويتطهَّر من مشاعر أوجاعه المتراكمة.