المرأة في عيدها العالمي كيف كانت وكيف أصبحت..؟
محمد محمد الخطابي
كان الاسم الأوّل الذي اختير لتخليد هذه الذكرى هو «اليوم العالمي للمرأة العاملة»، وذلك قبل أن يُعتمَد في الأمم المتحدة بصفة رسمية في الثامن من شهر مارس عام 1975، التي دعت الدّول الأعضاء فيها إلى الاحتفال بهذا اليوم. ومن ثمّ أصبحت نساء العالم تحتفل كلّ عام إحياءً بمبادرة الأمم المتحدة، كخطوة جريئة لإقرار مساواة تامّة، ومُنصفة بين الجنسيْن، ورفع الوعي السّياسيّ، والاجتماعيّ في شؤون، وأمور وقضايا المرأة، ومكتسباتها، وحقوقها، وتسليط الأضواء الكاشفة على المشاكل، والمشاغل، والصّعاب التي كانت وما زالت تعاني منها المرأة إلى يومنا هذا في مختلف أنحاء العالم.
مغزى ومعنى هذا الاحتفال
هذه الذكرى في الواقع هي تتويج لقضايا المرأة المناضلة، والمثابرة، والمكافحة، كما أنها تتويج لنضال النساء منذ عقود من أجل المشاركة في المجتمع والإسهام فيه على قدم المساواة مع الرّجل. وإذا عدنا إلى التاريخ نجد أنه في بلد اليونان القديمة كانت هناك امرأة تسمّى «ليستراتا» شنّت إضراباً موسّعاً ضدّ الرّجال من أجل وضع حدٍّ للصّراعات، والمواجهات وإنهاء الحروب والمظالم التي كانت تلحق بالمرأة فى ذلك الإبّان؛ ومن النساء الشّهيرات في الأدب، والأساطير، والمرويّات والتراث العربي بشكلٍ عام اللّائي تجاوزن الرّجالَ حكمةً، وذكاءً، وفطنةً، ودهاءً، نذكر منهنّ على سبيل المثال وليس الحصر: شهرزاد (التي تعتبر بدون منازع من حيث رمزيتها العميقة والبعيدة الغورمنقذة بنات جنسها)، وزرقاء اليمامة، وكليوباترة، والخنساء، وولاّدة بنت المستكفي صاحبة الشاعر الاندلسي الذائع الصّيت ابن زيدون، وشجر الدرّ، وزنّوبيا، والستّ الحرّة حاكمة تطوان، وفاطمة الفِهرية مؤسِّسة أقدم جامعة في العالم، وهي جامعة القروييّن بمدينة فاس العريقة، وسواها وما أكثرهنّ.
وكما هو معروف هناك العديد من النساء في الغرب اللاّئي أدركنَ مراتبَ عليا من الشّهرة، والذيوع في مختلف المجالات، وفي خضمّ الثورة الفرنسية، نظمت النساء الباريسيّات تجمعات كبرى للدّعوة لـتحقيق المزيد من «الحرية والمساواة، والأخوّة» حيث نظّمنَ مسيرات حاشدة إلى قصر فرساي للمطالبة بحقّ المرأة في الاقتراع. وظهرت فكرة يوم المرأة العالمي لأوّل مرّة في أواخر القرن التاسع عشر، ومستهلّ القرن العشرين حيث واكب نضال المرأة المستمرّ والمتواصل خلال هاتين الحقبتين تطوّر صناعي موسّع، واضطرابات، وقلاقل، حيث عرف المجتمع نموّاً ديموغرافياً كبيراً وموسّعاً، وظهرت أيديولوجيات وأفكار راديكالية جديدة. وعلى إثر الإضرابات، والاحتجاجات النسائية التي حدثت في الثامن من مارس من عام 1908، حيث تظاهرت الآلاف من العاملات اللائي كنّ يشتغلن في مصانع النسيج في مدينة نيويورك، بسبب الظروف الصّعبة غير الإنسانيّة التي كنّ يعملن فيها، وللمطالبة بمنح النساء حقّ الاقتراع، وخفض ساعات العمل الطويلة، وتحسين الدخل الهزيل الذي كنّ يتقاضينه في ذلك الوقت، ووقف تشغيل الأطفال القاصرين، وقد أطلقن على حملتهن الاحتجاجية اسم «خبز وورود»، حيثُ حملن قطعاً من الخبز اليابس، وباقات من الورود خلال هذه التظاهرات.
تحرّر المرأة
كتب الباحث الرّوماني «أوجِينْ وِيبَرْ» المعروف بتخصصه في التاريخ الفرنسي يقول إنّ «شارل بيغوي» يَرَى أنّ العالمَ قد تغيّر في الحقبة الزّمانية المحصورة بين القرنين المنصرمين، أكثر من الفترة الزمانية الممتدّة من ولادة السيّد المسيح عليه السلام حتى عصرنا الحاضر. ربما يبدو هذا الحُكم مُبَالَغاً فيه نوعاً مّا، إلاّ أنّ الباحث الروماني الآنف الذكر يبرّر ذلك بكلّ بساطة عندما يذكر لنا أنّه في الحقبتيْن الموالييْن لنهاية القرن الفارط، كان صاحبُ هذا القول شاهداً على كثير من التغيّرات، والتطوّرات والمُستجدّات التي طرأت على مختلف وسائل الحياة، والأنشطة، والتقنيات، التي كانت تطبع بشكل واضح مظاهر الحياة اليوميّة في ذلك الإبّان، ففي ذلك العصر ظهرت السّينما، والسيّارة، والعديد من المُخترعات الأخرى، وأمكن استغلال وقت الفراغ بشكل جيّد، الحركة، الأخبار، الرّياضة، الأنشطة المُبتكرة، وسواها من مظاهر الحياة اليومية الأخرى، كلّ ذلك كانت له أصول، وتأثيرات مباشرة وفعّالة على التغيير الجذري الذى عرفه عالمُنا المعاصر كذلك اليوم في هذه المجالات برمّتها، وفى سواها من مظاهر ت ومرافق الحياة. عرّض «أوجين ويبر» في ذات الإتّجاه للتغيير الهائل والملحوظ الذي عرفته المرأة على وجه الخصوص في خضمّ هذه التطوّرات التي بدأت تطرأ على المجتمع الجديد، حيث كانت القوانين الغربية في ذلك الوقت تعتبر المرأة مخلوقاً ناقصاً، وفي هذه الفترة مثلاً تمّت الموافقة لأوّل مرّة بأن تكون المرأة صالحةً لأداء الشّهادة في المحاكم، وبدأت تظهر بالتالي إرهاصات لبداية تحرّرها وإنفتاحها على المجتمع، وفكّ بعض القيود عنها فيه. ولابدّ أنّ القارئ يعرفُ جيّداً أنّ مجتمعاتٍ أخرى تُنْعَتُ بالمتأخّرة ظلماً وعدواناً وبهتاناً، وغير المتمدينة لم تضع المرأةَ في هذا الموضع من السّخرية والإزدراء! ويُخبرنا هذا الكاتب أنه في هذه الحقبة أيضاً أمكن للمرأة لأوّل مرّة أن تفتح حساباً مصرفيّاً خاصّاً بها في البنوك، وسُمح لها أن تحصل على درجات جامعية عليا مثل الدكتوراه. وحتى عام (1900) فقط سُمِح للمرأة لأوّل مرّة كذلك في فرنسا الالتحاق بكلية الحقوق كباقي زملائها الرجال، ويقول الكاتب إنه مع هذا التغيير الجذري الذى طرأ على وضعية المرأة، ومع الاعتبار الجديد الذى أصبح يُمْنَح لها وَقعَ أو طرأ تغيير كبير من نوعٍ آخر على «الموضة» (أي على طرائق، وأساليب، وتقاليع، ومبتكرات، وإتيكيت، وتفنّن لبس المرأة، وزينتها، وتطريتها “الماكياج” !). حيث أصبح رداء المرأة بسيطاً يخلو من التعقيدات الهجينة، والأنسجة الفضفاضة المبالغ فيها، والبَهْرَجة المتوارثة التى كان يفرضها عليها العصر، وتقيّدها بها التقاليد. وعلى الرّغم من التقدّم الهائل الذي أحرزته المرأة في مختلف المجالات في عصرنا الحاضر، فإنها ما زالت – مع ذلك- في نظر البعض تلك «الإلزَاتريوليه» مُلهِمة الكاتب الفرنسي المعروف الفرنسي «لويس أراغون»، ذات العيون السّاحرة التي يتوق إليها كلّ شاعر، أو أديب، أو فنّان، أو مبدع ليستلهمَ من سحرعيونها، وحدّة ذكائها، وروعة دهائها،ورقّة دلالها، وطلاوة عذوبتها، وتواتر عذاباتها، موضوعاتٍ جميلة، وآسرةً لشِعْره، وفِكْره، وفنِّه، وأدبِه، وإبداعاتِه على اختلاف ألوانها أشكالها وأصنافها.
أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والمرأة
ما زالت المرأة- في عُرف البعض – ذلك المخلوق القويّ، الضعيف الذي هو في حاجة دائماً إلى كلمات الإطراء، والإعجاب، والثناء والإطراء، والإبهار، والإكبار، وقد عِيبَ على أمير الشعراء أحمد شوقي كونه وضع المرأةَ هو الآخر في تلك الخانة الضّيقة التي تظلّ فيها ومعها توّاقةً إلى الثناء،: شغوفةً بالانبهار، إذ قال فيها أو عنها:
خدعوها بقولهم حَسناءُ / والغواني يَغرّهنّ الثناءُ..
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ / فكلامٌ فمَوْعِدٌ فلقاءُ..!
وقال عنها أمير الشعراء أحمد شوقي أيضا وبشكلٍ مغاير:
الأمّ مدرسة إذا أعددتها … أعددتَ شعباً طيّبَ الأعراق .
فردريك نيتشه وريشارد فاجنر والمرأة
كان الفيلسوف الغريب الأطوار فردريك نيتشة يقاسمُ مُعاصرَه الموسيقار الشّهير ريتشارد فاغنر حبّ الغادة الإيطالية لُوسَالُومِي ذات الحُسْن الباهر، والجمال الظاهر، فالأوّل كان يمثّل بالنسبة لها الصّرامةَ، والشّهامة، والجديّة (الفلسفة والعقل أو الفكر الخالص)، وكان الثاني يمثل العاطفةَ المتأجّجة، والرقّة والعذوبة، والخيال المُجنّح (الموسيقى والقلب أو العاطفة) وبعد حيرة وقلق وتردّد بين هاذين العبقريين مالَ، وإزورّ قلبُ الفتاة الحسناء أخيراً إلى فاغنر فأحبّته دون نيتشة، فشَعَر هذا الأخير بغيرة شديدة، فكان من فرط غيظه وغضبه يصعد إلى غرفة صغيرة منزوية توجد في سطح منزله ويحزّ أصابعَه بسكّين حادّ حتّى تُدْمىَ أناملُه، وبعد ذلك، عندما حاق به اليأس، وأخذ منه الإحباط كلّ مأخذ في الظفر بحبّ وقلب معشوقته لوسالومي، قال معلّقاً على هذا الحدث الذي أثّر في حياته تأثيراً بليغاً قولتَه الشّهيرة التي ما فتئ العشّاقُ، والمُحبّون، والمتيّمون الذين لم يظفروا بقلب معشوقاتهم يردّدونها إلى اليوم، قال ساخراً، متهكّماً، مُزدرياً، مُنتقصاً من قيمة الموسيقار فَاغْنر: لقد حلّق طائرٌ في سماءِ حبّي، واختطفَ الملاكَ الذي أحببت، ولكنّ عزائي الوحيد أنّ هذا الطائر لم يكن نِسْراً..!
وراء كلّ عظيم امرأة!
ويرى كثيرون أنه ما من نجاح، أو فلاح، أو تطوّر، أو تغيّر، أو قفزة، أوطفرة إيجابية في تاريخ البشرية، وفى مسار الناس، والحياة، والبشر إلاّ وكان للمرأة دخل أو يد فيها، ولولا ذلك لما قال “نابليون” قولته الشهيرة في المرأة.. (وراء كلّ عظيم امرأة).. ! ولما قال هو كذلك في السّياق نفسه: (إنّ التي تهزّ المهدَ بيسارها، تحرّك العالمَ بيمينها)! ولولا ذلك للمرّة الثالثة، لما قال “باسكال” عن كليوباترة: (لو كان أنفها مستقيماً لتغيّر وجه التاريخ).. ! وحمداً الله لأنّ أنفها من حسن الحظّ كان مُحْدوْدَباً، نوعاً مّا، ولم يكن مستقيماً، ولذلك لم يتغيّر وجهُ التاريخ..!
مباريات الجمال..!
بعد المعارك الضارية التي خاضتها المرأة عن جدارة، وأهليةٍ، واستحقاق بحثاً عن ذاتها، ونفسها، وعزّتها، وكرامتها، وشخصيتها، ومساواتها، وحقوقها المشروعة، قرّرت منذ زمن غير قريب أن تخرج بهذه المعارك الطاحنة من حيّزها الضيّق إلى مجال أوسع، وفضاء أرحب في مختلف أرجاء المعمور.. عندئذٍ خلقت لنفسها أحقاداً، وخصوماً، وأعداء ومتوجّسين، ومناهضين لها في كلّ مكان. واستخفافاً بها، واستهتاراً بأنوثتها، وانتقاصاً من ألمعيتها نصُبوا لها الكمائنَ، وفرشوا لها المكائدَ، فأوجدوا ما يسرّ الأغلبية السّاحقة الماجنة، ويغضب الأقلية القليلة العاقلة.. بتنظيم ما يُسمّى بمباريات أو مسابقات ملكات جمال العالم!. وأيُّ خداعٍ يكتنف هذه الكلمة، ذلك أنّه ليس من اليُسْر والسّهولة أن يُعرِّفَ الإنسانُ الجمالَ!، فقد حار في تعريفه حتى كبار الفلاسفة، والمفكّرين، والشعراء، والأدباء على مرّ العصور، وتعاقب الدهور. ونصب هؤلاء المنظّمون على المنصّة شرذمة من السّكارى والصعاليك لتقول: إنّ الجمالَ هو طولُ القِوام، وهيَافةُ الخَصْر، وبروزُ النّهدين، وتناسقُ الأرداف، ورشاقةُ السّيقان، ولمعانُ الشّعر وإنسداله وإنسيابه..!، والتعرّف على عواصم فرنسا، وبريطانيا، واليونان، واليابان..! والفائزة منهنّ في تلك المسابقات المخزية تُتَوَّجُ بتاجٍ من الذّهب الخالص الإبريز المرصّع بالماس والزمرّد، ويوشّح صدرُها بقلادة غالباً ما تكون مطرّزة بالماس أيضاً. وعلاوةً عمّا تقدّم يوهب لها مبلغ كبير من المال نظير جمالها..!، ناهيك عن الشّهرة الواسعة التي تنتظر الفائزة المحظوظة من إبرام لعقود الدّعاية، والماركتينغ، والإشهار والسُوشل ميديا، والسينما، والتلقزيون.
ترّهات وخزعبلات
مع ذلك مازلنا نقرأ هنا وهناك بعض الترّهّات، والخُزعبلات حول المرأة من كلّ نوع، فما بالك بالقائل – حتى وإن كان كلامُه مردوداً عليه – عندما يقول: “المرأة أصناف، ونماذج، إنها في حيرة من أمرها، فالتي ترتدي الميني متصابيّة، والتي ترتدي الماكسي مُعقّدة، والتي ترتدي الميدي مُعتدلة، والتي ترتدي البنطلون مُسترجلة، والتي ترتدي الشورتْ إمرأة لعوب”، إلاّ أننا نعود بعد كل ذلك وذاك لنذكّر في ختام هذه العُجالة بقول الشاعر القديم: (إِذا المَرءُ لَم يدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ/ فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ). وكلّ عامٍ وأمّهاتنا،وزوجاتنا، وأخواتنا، وبناتنا، وشاعراتنا وأديباتنا، وعاملاتنا، وشرطياتنا، ووزيراتنا بألف خير!