في الحاجة إلى نقد محمد بنيس شاعرا
اسماعيل طاهري
مشكلتنا مع محمد بنيس أننا نحبه ولا نستطيع نقد تجربته الشعرية، هو شاعر كبير ويستحق ارقى الجوائز، ولكن في السنين الأخيرة بدأت تجربته تشتغل على اللغة وبات الغموض سيد الموقف في كتاباته، وكأن ديدنه هو الاشتغال على كتابة اللغة بدل التجربة الانسانية الاجتماعية.
ولا ننسى أنه من رواد تجربة السبعينات الموسومة بـ “الشهادة والاستشهاد”، فكتاباته في البداية كانت طافحة بعنفوان الشباب التواق إلى التحرر والانعتاق من قيود التاريخ والتخلف والاستعمار.
في السنين الأخيرة، ومنذ ديوان “هبة الفراغ”، اتجه نحو الخروج من العنفوان الأول، واتجه كالنهر عندما يقترب من البحر إلى البحث عن السلام والطمأنينة والهدوء، وإعلان الحياد تجاه السلطة والشارع والعالم، محتفظا بمظلاته الكبرى، كالدفاع عن الثقافة ودورها في التغيير، ودفاعه عن فلسطين كقضية عادلة غير قابلة للتصرف.
لو احتفظ بنيس بطاقته التي استمدها من جيل السبعينات، لما قبل بجوائز البترودولار وأتباعه في المغرب، وبات اليوم يحلق خارج جيله السبعيني وأحلامه وآماله في قلب الأوضاع وتجديد اللغة وتكسير النمط التقليدي للكتابة الشعرية العمودية، وحتى اعتماد الكتابة الكاليغرافية المستندة إلى الخط المغربي القرآني.
لقد تحول بنيس إلى ظاهرة في الشعر المعاصر بالمغرب، وصار النقاد لا يقتربون من منجزه إلا تزلفا وإنشاء وإطراء جبرا للخواطر، ولا أحد منهم تجرأ على نقد تجربته الجديدة، المستندة على اللغة والكتابة داخل الكتابة عن الكتابة ومن أجل الكتابة، دعك من الكتابات المشرقية التي تمارس النقد الأدبي لتجربة بنيس بطريقة إنشائية مبسترة فيها الكثير من الإسهال.
وبعد أن كان الشاعر محمد بنيس يكتب عن الدم السيال في الشوارع، ورصاص الطغاة والأنفس التي سحقها التخلف والفقر والهشاشة والدرجة الصفر في الكرامة.، صار يكتب عن الهيولى وتحولات المعنى في اللامعنى. وينأى بقلمه عن كل ما قد يزعج “المؤسسات” الجاثمة على الرقاب والبلاد ومن حملوه يوما، في جمر السبعينات، على الكتابة بالدم إلى حد الاستعداد الطوعي (وعن إصرار وترصد) للشهادة والاستشهاد.
بالأمس كتب بنيس عن الفراغ كهبة وعن “الأزرق” كملاذ، واليوم يكتب عن “الهواء”، وغدا عن “مائيات”، كما كتب شاعر جيله محمد الأشعري ديوانا بهذا العنوان، فيما يشبه شهادة انسلاخ عن شعر “الشهادة والاستشهاد”… الخ
من جهة أخرى لم تستطع المؤسسة النقدية في المغرب نقد ارتباط تجربة محمد بنيس بتجربة الشاعر أدونيس وتهمة إعادة اجترار عوالمه الفكرية والشعرية. وإن كان حضور تجربة أدونيس في تجربة بنيس غير خافية.
وإن كان بنيس بارعا في تجربته ومتفردا، عكس العديد من شعراء العربية الذين يقلدون أدونيس بوعي أو بدون وعي. خصوصا فيما يرتبط بثيمات الثالوث المحرم (الجنس- الدين- السلطة).
ومع ذلك، كثيرا ما نحس أن التجربتين تغرفان من نفس القارة الشعرية. وقد يكون أدونيس نفسه يقلد ويقتبس من عوالم محمد بنيس، كما يفعل أساتذة الجامعة مع طلبتهم النجباء في بحوث الإجازة والماستر والباشلر في المغرب وخارجه.