جدلية اليأس والأمل في “نون المنفى.. سيرة نساء من هناك”

جدلية اليأس والأمل في “نون المنفى.. سيرة نساء من هناك”

لحسن أوزين

        (تكتب أو تقتل احذر أن تفهم أن هذا الإنذار موجه إليك من جلاد ما. إذا تجاوزت سطحية الرمز ستعرف أن صوت التاريخ هو الذي يتكلم. وهو يعبر عن أحد أعنف قوانينه. كل صمت تقصير في حق الحياة. كل يوم يمر دون أن تكون على موعد مع الكلمة يمثل انكسار فرع من شجرة الحياة. وبعبارة بسيطة كل كلمة تضيع هي صوت يخنق، صرخة يائسة لا تجد لها صدى. فضيحة تسقط في مستنقع الأحداث التافهة)

مجنون الأمل

       لن يستطيع قارئ كتاب “نون المنفى، سيرة نساء من هناك”، (إعداد د اشراقة مصطفى حامد)، أن يتوقف عن القراءة. لن يفكر في أي شيء آخر، كما لو أنه مسحور بقوة اللغة الشعرية، الشفافة، وجمالية صياغة الواقع، القاسي والمؤلم، الذي فاض وغطى على الخيال، دون أن يعني ذلك فقرا في فنية وجمالية الشكل السردي. كما أن جسد القارئ وروحه، خياله وتفكيره، سيكون مسكونا بالتدفق الهائل لحركة السرد الشائقة والمؤلمة، في اختراقها للذات والكتابة والقارئ. قاسية وجميلة في انتهاكها لبشاعة الصمت والحلكة الشرسة التي حرّمت ومنعت وقمعت طويلا، سقوط، أو تسليط شعاع ضوء على التجربة الوجودية للنساء. أو بالأحرى فتح السبل الطبيعية لهن للتعبير الحر، وأخذ حق الكلام. وبشكل أدق أن يعتلين بإرادة ذاتية حرة وجريئة منصة الكلام والكتابة، دون الحاجة لأخذ الإذن من أي كان.

وذلك لتسجيل قدرتهن على مواجهة القهر والظلم والكراهية والمآسي، والعنصرية المشحونة بالاحتقار والنبذ الاجتماعي. ليس في الوطن فقط، بل أيضت في المنفى، و بشكل أكبر من قبل العربيات والمسلمات، أو من ذوي جلدتك أيضا. ومع ذلك عشن مخاضات الولادة من جديد، بقلوب أكثر قوة وقيمة وإنسانية. “ما أقسى أن تمارس عليك العنصرية، وأنت في بلادك..  رجعت فلاش باك للوراء، وأنا أتذكر اضطهادنا نحن الشماليون، لبعض القبائل، وتشغيلنا لهم كخدم في بيوتنا، ونظرتنا الاستعلائية عليهم، وعدم  قبول الزواج منهم. حقيقة لا نعرف جريرة ما فعلناه بالآخرين إلا بعد أن نحترق بلظى نيران العنصرية البغيضة، فتنضج طبخة تصالحك النفسي مع كل الألوان والإثنيات، وتكون أكثر قبولا للآخر”. 55

هذا يعني التفاعل الخلاق مع الآخر في بناء الذات، والتخلص من التصلب الذهني والانغلاق الفكري،, والخوف النفسي المكبل لطاقات الحياة، والانطلاق في العالم الرحب، بثقة في النفس، في الأخذ والعطاء، والتعاون والتضامن، والتعاطف،, والاحساس بمعاناة وآلام الآخرين…

كتاب مؤلم وجميل…

     مؤلم في صراحته وصدقه وجرأته في تعرية الذات والآخر والعالم. وفي قدرته على بسط التجارب الوجودية والديناميات النفسية لمجموعة من النساء. عانين وتألمن وتعذبن، وخرجن كالعنقاء من تحت الرماد و الأنقاض والخراب والدمار، الذي خلفته الوحوش البشرية للأنظمة الأبوية. والقيم والأفكار والعلاقات والدلالات الذكورية،, التي لا تتسع ثقافة عقول رجالها لأكثر من فكرة واحدة،, قابعة تحت الحزام.

وجميل في لغته الساحرة، وهي تخرج من الأعماق موشومة بالحمم الحارقة والمرعبة، في قول المحنة والعذابات الرهيبة التي ولدتها آلام الدفاع عن الحياة الكريمة. مع الإصرار على رفض سلخ القيمة الإنسانية،, والسقوط العطن في مستنقع التفسخ الإنساني والاخلاقي والمبدئي. أو القبول القذر بالتبعية المطلقة والعيش في الهامش والجهل والاستيلاب الفكري والعلائقي، المانع لإثبات الذات، وتأكيد حضورها كمشروع وجودي، غير قابل للترضيات والتنازل والمساومة، على حساب إنسانيتهن.

هذا هو النص الذي يرفض في سيرورة القراءة، أن يكون مجرد نص عابر. نتركه، نرميه، ننساه، بعد الانتهاء من قراءته. بل إنه النص/الكتاب الذي يسائل الكثير من الأفكار التي تشربها الفرد في مجتمعاتنا، كقيم ثقافية اجتماعية ذكورية. قيم تجهل ما يعتمل في قلوب ودواخل وعقول النساء من قدرة على صناعة الحياة والمصير. وعلى رفع التحدي مهما كانت الهزيمة والفشل والخراب، ونزيف عنف الدماء والعنصرية والكراهية البغيضة…

إنه الكتاب الذي يدفع بقارئه إلى مراجعة وخلخلة الكثير من المعارف والأفكار والحقائق الجاهزة. وأن يعترف بكامل قواه العقلية  بالاستعداد الأخلاقي والفكري والجمالي  للتعلم من سيرة النساء. ومراجعة الذات للتخلص من كل العفن والقذارة التي رسبها الموروث الثقافي والديني، والقهر السياسي الراهن في الجسد والروح، في النظرة والرؤية والتفكير والتعبير والمعاني والحواس والعلاقات الاجتماعية…

لكل هذا التغيير الذي يمكن أن يحدثه هذا النص في القارئ الفرد/ والمجتمع، يمتلك حق اكتساب جدارة العمل والكتاب.

سيرة الكتاب موجعة مؤلمة، محفوفة بالمخاطر والفواجع، والخوف سيد الميدان، في البيوت وفي الطرقات. على التخوم وفي الملاجئ يهيمن الخوف اللعين، ويحضر الرعب والفزع بقسوة الوحش الحاقد. حيث “الانسان ذئب أخيه الانسان”. لا أحد يأبه لمعاناة وآلام المهجرين العزل الذين/اللواتي فرض عليهن التهجير. قدرهم  أن يكونوا مشاريع موت يومية، أينما حلوا وارتحلوا.

 حركة السرد شلال هادر، وموج بحر هائج، ولا مفر من ارتطام القارئ بصخور الرعب المروعة من صفحة لأخرى. هكذا كان الهروب/التهجير القسري مأساة حقيقية، مشحونة بالآلام والمعاناة لنساء ترافقن  أطفالهن. هروب من الموت في وحل طرقات الرعب الرهيب، وبحار الموت، حيث القلوب مثقلة بالتوجع والتفجع والتوجس والحذر اليقظ، من الشر المتربص، والجاهز للانقضاض في أية لحظة سهو أو إغفال. شر القتل، والاغتصاب والابتزاز والمساومة على الكرامة والقيمة الإنسانية. هذه هي الأعماق النفسية المسكونة برعب الطاغية وزبانيته التي لا تفارق مخيلة المهجر/اللاجئ. “صحيح أنهم لا يشبهون رجال الأمن عندنا، وصحيح أن ملابسهم لا تشبه الألبسة التي يرتديها أولئك الذين أجادوا إيلامنا و إرغامنا على مدى سنين طويلة، وصحيح أن ملامحهم لا تشي بأحقاد قديمة، ولكني خائفة، من ماذا؟ لماذا؟ لا أدري، ربما على أطفالي، ربما ثمة خطب ما، ربما”. 15

سيرة حارقة موجعة لنساء تنزفن من الداخل، لكن كان عليهن حماية  أطفالهن وأنفسهن. ودون عُقد كشفن عن ضعفهن وهشاشتهن، وعن عذاباتهن،, وهن تعبرن الحدود،, إنها تجارب مرعبة ومؤلمة، وشجاعة قوية أيضا في عيش المحنة و فلسفة التجربة، تبعا لمنطق التفكير الواعي، المتحكم في أدوات الكتابة والعيش. وهذا ما تمكنت فيه كل نساء السيرة، بوعي ونضج نفسي وفكري وعاطفي، في تفكيك الذات والمجتمع والثقافة. الى جانب نشر الغسيل القذر للتصورات والمعتقدات المجتمعية التي أقصت وأبعدت المرأة من الرابطة المجتمعية، حرية وكرامة ومساواة. وبالتالي أبعدتها من دائرة الحياة. لقد عرت سيرة النساء بشاعة التشوهات الذكورية التي خربت عمق الرجال، بالعنف والحقد والكراهية والقتل المجاني التافه.  والمس بكرامة البؤساء الهاربين من عنف الطغاة. كما كان يفعل الضابط التركي المكلف بالملجأ. وفي كل هذه المواقف الحرجة والصعبة كانت النساء قويات رغم بشاعة الرعب والأهوال والخوف الكاسح، الناسف  لبذرة الأمل في النجاة.

وفي لحظة اشتغال الكتابة/الذاكرة كانت النساء، من أول صفحة في الكتاب الى آخر صفحة، تتألمن من شبح الموت الرهيب، ومن التقاليد والعادات، والعلاقات الاجتماعية التي لا تحفظ كرامتهن وشرفهن الإنساني، كذوات حرة مستقلة عن الوصاية باسم الدين واللغة، أو باسم عاهات التقاليد، وشر التملك الذكوري الى حد الاسترقاق للنساء. “أخبرتها على الفور أني سعيدة ومرتاحة مع رفيقات سكني، وأني في هذا البلد مسؤولة بشكل كامل عن نفسي، ولا أحد وصي علي… اتجهت الى غرفة الشباب اليمنيين، طرقت الباب ودفعته مباشرة، دخلت وصفقت الباب خلفي وجدتهم جميعا مجتمعين يشربون البيرة، ويدخنون السجائر، ويخزنون القات، صرخت فيهم جميعا بأعلى ما لدي من صوت، وأخبرتهم أن لا وصي علي، أنا هنا طالبة جامعية مثلهم، وكل واحد هنا مسؤول عن نفسه، وإذا تجرأ أحد وتحدث باسمي أو اعترض طريقي، فسوف يندم”. 75

  سيرة نساء تشهد على نفسها وعلى الواقع والآخرين. تسائل، تناقش، وتفكك وتخلخل توازن النفاق الذكوري الهش. سيرة تضرب عرض الحائط بكبرياء الخجل والحياء الذكوري، لأمة مكارم الأخلاق العطنة التي تخشى العناق الحار، بين الزوج والزوجة. ذلك العناق الإنساني في عمقه العاطفي الوجودي، القادر على إخراج أثقال محرقة محنة وعذابات وآلام رحلة الموت، والخوف والقيود النفسية الرهيبة. هكذا تنبهنا سيرة النساء الى أننا نفوت فرص اللقاء الجميل والناذر بأنفسنا، ومصالحة ذواتنا التي خاصمناها طويلا بأفكار بليدة وعدائية تنضح بالهدر الذاتي وبالكراهية، لأنفسنا قبل أي شيء آخر. ونتخفف من عبء الموروث الثقافي والديني البشع لسطوة الذكورة الجوفاء. “ما أوسخنا ونكابر”. “إنه لم يراني، بل رآني، ولكن كنت دوما المؤجلة، أكتفي بالنهاية من كل شيء. لا بأس، ربما بصحبته بعض الأصدقاء، وهو لم يتحرر بعد من كونه شرقيا، وربما يجد من غير اللائق أن يضم إليه زوجته، ويقبلها على مرأى من شرقيين من نفس المدينة. لقد كان لقاء فاترا باهتا كصباح دون حلم، قبل جبيني وابتعد”. 17

سيرة تفضح وتدين همجية الطاغية الحاكم، سواء في السودان الذي خربته الانقلابات، وجنون الصراع حول السلطة. وكانت القوى الحية المدنية والحزبية تدفع الثمن غاليا. فأبانت المرأة السودانية على قوتها وشجاعتها وحنكتها في تدبير الأزمات، وحل المشكلات السياسية المأزقية التي يفرضها القمع. وجرأتها في التعامل السياسي العقلاني الذكي مع المواقف الصعبة، ومواجهة التحديات المروعة. أو في سوريا حيث النظام خرب حياة الناس اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا ولغويا. ودفع بالكثير منهم الى ركوب أهوال التهجير والهروب من وطن يسكنهم، وهم  لا يجدون إمكانية للسكن فيه أحرارا معززين مكرمين. “لا أعتقد أن أحدا ما يهرب من وطنه بإرادته، كلنا مهجرون، منفيون قسرا من أوطاننا”. 109 فقد حرم مكونات سوسيولوجية وثقافية واثنية ودينية من التعبير عن هويتها اللغوية والثقافية والقومية. جراحات عميقة موشومة في الذاكرة، وعلى الجسد، حملتها نساء السيرة معهن في المنفى. هذا يعني كل هذه التشوهات والعاهات، والآلام النفسية والفكرية والانفعالية الوجدانية، والعشرات من الذكريات الموجعة المؤلمة التي لا تتسع لها لغة المنفى.

ولم يكن المنفى خاليا من الكثير من المصاعب والانكسارات والخيبات، في الاندماج والعنصرية والكراهية. “ذات صباح كان الشارع شبه فارغ من المارة، سمعت زعيقا غير مفهوم  بجانبي. التفت لأستطلع اتجاه الصوت، فتى صغير لم أفهم كلامه بصق اتجاهي ومضى.. قلت لزوجي: لن أخبر ابني وابنتي بالأمر. يجب أن يبقيا إيجابيين تجاه البلد وأهله، كي لا تنكس أعلامهم، ويتحولا الى مجرد ضحايا يذعنون للخيبات، ويعللون الفشل”. 86

 كما أتى الكتاب على همجية المغول الدواعش الذين جاؤوا هذه المرة من الداخل، من الدين نفسه تقريبا. ونشروا الخراب والقتل العنصري الحاقد. هكذا هي ذاكرة سيرة نساء من هناك، مثقلة بعذابات آلام ، فظيعة تحفر في جوف الذات رعبا مزمنا لا ينتهي، ولا حد لشراسته في جلد الذاكرة، وتعذيب الروح. وجاء القتلة من الداخل والخارج في حسابات سياسية وجيوسياسية وعسكرية. مما أدى الى مآسي رهيبة ومؤلمة مست الناس العزل، الذين/اللواتي تمزقت أسرهم، وتشتت شملهم، على إيقاع جهنمي لا يرحم، من كل الجهات المتصارعة على حساب المدن والقرى الآمنة.” فشلت محاولاتنا في إقناع الإدارة الذاتية بسحب قواتها وترك عفرين خالية من السلاح للحفاظ عليها من الدمار والتهجير. مبرر تركيا أن الإدارة جزء من العمال الكردستاني التركي المدرج على لوائح الإرهاب، ومبرر الإدارة الذاتية أن تركيا بكل الأحوال ستشن الهجوم بوجودهم أو بغيابهم، وعلى هذا الأساس قررت خيار المقاومة والتضحية بشعب أعزل في وجه دولة غاشمة هي الثانية من حيث القوة في حلف الناتو”. 88

 والرائع أيضا في هذه السيرة أنها تقلب الطاولة وتنكل بأخلاق الحشمة والوقار، و تسخر من الدافع الجنسي الصرف لسطوة الرغبة، الأقرب الى الافتراس، وليس فقط الاغتصاب الجاهل بقيمة إنسانية المرأة. وما تستحقه من القبول والاعتراف والتقدير والاحترام كذات إنسانية، بدل اعتبارها صندوق قمامة لتمرير السائل المخصب للقهر والهدر. “أبديت في المقابل استغرابي لطلبها بأن ننفرد بغرفة ونمارس الرغبة على مرأى من تعبي، كيف تشتاق الأجساد للأجساد؟ ما هو مفهوم الحنين، الحب، المشاعر، الإنسانية، كم شوهتني تلك الكلمات… من هذا الذي سيوهمني أنه قد اشتاق لي وهو ينال مني؟ لماذا لا يطلب مني أن نخرج نتمشى قليلا، قريبا من المكان، نتحدث عنا، يصمت كلانا، لتتحدث أنفاسنا، لنسمع رغم كل الضجيج صوت قلبينا، نبكي بحرقة صاد، ثم نمضي معا نفترش مقعدا يتيما، ننتظر الفجر معا”. 24

هذا الموروث الثقافي الديني، من العادات والتقاليد للمجتمع الذكوري، هو من كان وراء قهر نساء السيرة/الكتاب. نلمسه بشكل واضح وصريح كنظام ثقافي ديني، واجتماعي سياسي، وليس فقط في العلاقة بالأب الذي قد يكون سندا وداعما لابنته. ولكن في حدود سطوة قيود وقواعد النظام الأبوي التي تسلخ عادة إنسانية المرأة. والغريب في الأمر أن الكائن الأقل قيمة واعتبارا في المجتمع يتحول جسدها إلى روح ونقطة ارتكاز شرف العائلة والقبيلة والعشيرة. لذلك تظل عرضة للعنف الرمزي والجسدي. وتعذبها كوابيس الاغتصاب أكثر مما ينال منها خوف القتل والألغام. “الطرقات الوعرة والخطرة التي كنت أجتازها يوميا للحاق بالعمل، والمعرضة لمخاطر الألغام المزروعة في المنطقة بعد المعارك التي شهدتها مع الجماعات المتطرفة، وآخرها داعش، ما كانت تخيفني، لكن آثار العنف الجنسي المروعة، قصص كنت أسمعها بشكل يومي هو الذي أصبح هاجسا يزيد مخاوفي من البقاء في بقعة متقدة بالنار تحرق كل شيء، بالإضافة للصراعات العسكرية والسياسية، وصراعات العادات والتقاليد الاجتماعية المهددة لحياتنا”. 142

ذاكرة تنزف باستمرار وهي لا تقوى على نسيان الماضي الأليم، وكيف يمكن للمهجر، المبعد من وطنه، بلدته وأهله…، أن يعيش النسيان الرحيم؟ وهل يمكن للقلب أن ينفصل عن نبضه؟

هكذا ظلت سيرة النساء حافلة بكل تفاصيل القهر والإقصاء والنبذ. تفاصيل القهر المضاعف والمزدوج، الذي قلما ينتبه لها المجتمع الذكوري، في قسوتها وعذاباتها الحافرة في الأعماق أخاديد الرعب والخوف والإرهاب. والعشرات من تنانين الكوابيس التي تطارد نومهن، وتعيق تفكيرهن.

لكنها في الوقت نفسه سيرة تكتب تاريخها المهمش والمنسي، بلغة جميلة وموجعة بصدقها وقوتها في خوض معركة الذات ضد الذات. لا تخشى مناطق الظل المعتمة التي حملتها كل واحدة في الروح والجسد بصبر أيوب، وقوة احتجاجه على رفض الظلم. تجارب لم ينسجها الخيال الإنشائي البئيس. بل تميزت بعمق الفكرة، وجمالية البعد الفني في جعل العبارة تتسع للمعاناة والمآسي. سيرة ولدتها مخاضات محن عسيرة، كان الموت فيها أحيانا شاهدا برؤوس وحش، وجلادا عنيفا لا يرحم المهجّرين في الطرقات والغابات والأماكن المرعبة والمرهبة، وفي بعض الأحيان كان يسترخص حياة الإنسان، المقهور ألما، ووجعا، والهارب من القهر والحروب، ومختلف أشكال العنف الدموي.

“أنا من أدركت في سن مبكرة أن الحياة كفاح، أنا من علمتني أمي أن من لا يعمل لا يأكل، وعلمني أبي أن ليس لنا خلاص إلا في العلم، أنا من تمنى أبي أن أكون ذكرا كون الشجاعة تليق بالرجال، أنا من حرمت من حنان أمي في عمر مبكر، كبرت قبل أواني، وتحملت عبر السنين بعدي عن والدي طلبا للعلم وللتعليم، أنا من فضلت تحمل عذابات الآخرين فوق عذابي وتقاسمت الرغيف مع الجياع، رغم أنوثتي وصفت بالرجولة، أنا من حذرت منها صديقاتها كونها شيوعية لا تخاف الله، ولا النظام، أنا من حاربت الاستبداد في الشوارع والمدارس والجامعات، ولكني وقعت للاستبداد ضحية”. 114  

وبين ثنايا السطور تكبر النساء في سيرتهن، مناضلات، مكافحات وقويات في كتابة سيرهن الموجعة المؤلمة، والرائعة في صمودها وبكائها الجميل، كآلية للمواجهة واستجماع القوة وضبط التركيز والتفكير في تعظيم فرص النجاح، والتغلب على المحن. قد تبدو هذه السيرة لنساء من هناك قصيرة في صفحاتها، لكنها فكريا وسياسيا وأدبيا عميقة المعاني وغزيرة الدلالات، وممتعة فنيا في شكلها السردي كشلال متدفق بعناصر الحياة والحب والتجربة الإنسانية.

جميل ورائع هذا العمق الإنساني (الأنثوي) فينا الذي نستميت نحن الرجال في إقصائه ونبذه، تحت وطأة ثقل عفن الموروث الثقافي والديني والاجتماعي الذكوري. والمؤلم أننا بدون وعي نقوم ببتره كجزء حي من ذواتنا.

وفي هذه السيرة/الكتاب نتعرف على هذا العمق الذي خسرناه وخربناه ودمرناه، واعتلينا بوقاحة منصة التنوير والتقدمية واليسارية والتحرر. فكان من الطبيعي تبعا لمنطق التاريخ البشري، والتطور الحضاري أن نغرق في الانحطاط والهزائم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية والأخلاقية. من هذا المنظور في قراءة هذا الكتاب نفهم مدى شجاعة هؤلاء النساء في مواجهة وتعرية الفساد السياسي الذي امتدت عدواه الى كل القطاعات المجتمعية. “كانت الغالبية من النساء. كان الكل يحس بالغبن من هذا الوضع لذا قمنا بكتابة مذكرة موجهة للوزير بواسطة مدير عام الوزارة نعترض فيها على تهميشنا، وأشرنا بشكل ضمني للفساد والمخالفات المالية في التحصيل. لكن تم تجاهلنا، فقمنا مرة أخرى بكتابة مذكرة تكلمنا فيها  بشكل صريح عن الفساد بعد أن حصلنا على بعض المستندات التي تثبت عمليات فساد ممنهج في رسوم الأراضي الاستثمارية”. 158

 وأيضا كشفن العورات الحقيقية للنظام الأبوي الذكوري المتخلف اجتماعيا وأخلاقيا وإنسانيا، في الوصاية والحجر والإلغاء الوجودي، لأي نشاط مجتمعي عام تنجزه أو تشارك فيه النساء.  فالمجتمع يعتبر ذلك من باب الرذيلة والانحطاط. لكن هؤلاء النساء واجهن هذا النفاق الاجتماعي، والتصحر الأخلاقي القيمي والإنساني، بوعي وإرادة صلبة، في ممارسة فعل التغيير المزدوج والمركب، الذي يصعب على قوى التغيير ذات المرجعية والخلفية الذكورية فهمه وإدراكه” وجودي ضمن هذا المجتمع كصانعة قرار، ومؤثرة سياسيا ومدنيا كانت له تبعاته، لأن هذا الوجود من وجهة نظر المجتمع يخالف الفضيلة، ويخالف الأخلاق التي أسسها المجتمع لنفسه، والتي غالبا ما تكون أخلاق تفوق الذكورة على الأنوثة، وهذا ما جعل تعاملي مع الأمر مختلفا، فمن جهة أنا أعمل في جبهة سياسية تحاول أن تصنع تغييرا، وتحولا ديمقراطيا، ومن جهة أنا أعمل على التخلص من عباءة المجتمع المفروضة علي، والتي تجبرني على محاربته واستنزاف طاقتي التي يجب أن تكون في سبيل التغيير الديمقراطي”. 126

وفي هذا الكتاب الثري بالمعاني الإنسانية في تحمل الآلام، ومواجهة ويلات الموت والإرهاب النفسي والاجتماعي والأخلاقي، القاتل للروح المعنوية. نجد بالموازاة مع عذابات التهجير والمنفى، وآلام الذاكرة الموشومة بالحمم البركانية شموسا أخوية مشرقة دافئة، تفتح ذراعيها بمحبة كبيرة للاجئين. تنصت للجراحات العارية، وهي تنزف ألم حرقة الذاكرة، بما خزنته في تجاويف القلب والدماغ من خبرات ومعايشات في غاية الألم والفظاعة. تمد يدها للمساعدة، وتنير  طريق المستقبل أمامهم، وتطرد الظلام الحالك الجاثم فوق عداد الذاكرة الذي لا يتوقف في استحضار رعب ومآسي،  عرفوها في حياتهم وبلدانهم بقهر لا يوصف في سلخ قيمتهم الإنسانية. شموس تنفتح بالصدفة كليلة الفلق التي تمنح فرصة الولادة من جديد. إنها شموس المحبة والتعاون والمشترك الإنساني، ذلك الوجه الآخر للغرب الأوروبي في القيم الكونية الإنسانية. (هذا الدفء الأخوي يلمسه القارئ عند لقائه الجميل بكل من “أولي، سوزانا، مونيكا، نوبرت…) كنت أسرد حكايتي لسوزانا ونحن نمشي شوارع طويلة من المطر، وهي تمتص حريقي، وتطفئه بمحبة، كنت أتنهد وأقول: سوزانا أيتها الغريبة القريبة هل تعلمين أنني كفرت بوطن يكون طفلي قربانا فيه؟ أتعلمين أن زوجي فقد إحدى عينيه كمدا؟ بذلنا الغالي والرخيص لننقذ فلذة كبدنا من تلك المقتلة… وقلت أيضا لمونيكا، تلك الفنانة الألمانية التي كانت تعالج الأطفال من عثراتهم النفسية عن طريق الموسيقى والرسم… هكذا كان (نوبرت) يخفف عني شعوري بالعبء عليه، وعلى مونيكا الجميلة الأنيقة، التي أضحت إحدى صديقاتي كما سوزانا التي رافقتني في ليل نحبي الطويل، وأنا أسرد لها ما يضغط على روحي”. 173 و174

وفي هذا السياق للوجه الجميل الأوربي بعيدا عن العنصرية والكراهية التي تضمرها، أو تصرح بها، الكثير من الفئات المجتمعية الغربية، تتعرف المرأة الشرقية على ما تخفيه مكتسبات الحرية والمساواة والديمقراطية، من ممارسات قذرة في حق نسائهم. عندها تكتشف نساء السيرة بعض الخيبات والانكسارات الدفينة التي يصعب التعرف عليها من خلال ما تخفيه الحياة البراقة الجميلة من بقايا الظلم والقهر التي لا تزال تلتصق بالمرأة. إنها الرأسمالية الجشعة في أحد وجوهها البشعة لهدر القيم الإنسانية والانتصار للفردانية الأنانية الضحلة الإحساس بآلام الآخرين. بالإضافة الى الكثير من التشوهات التشييئية التي مست المرأة في إنسانيتها.” في بلاد الديمقراطية، تظلم النساء أيضا، يرمين من قبل أزوجهن للوحدة، تنال منهن الخيبة والفقدان، لا يزال أغلبية الرجال يرون المرأة جسدا للمتعة دون الاكتراث لروحها، ومتى ما وجد امرأة أصغر سنا، أو أجمل منها، فإنه يدير ظهره ناكرا للسنين التي قضتها معه على الحلو والمر. كانت صدمة أضيفت الى صدماتي، بأي شيء يختلف زوجها عن الزوج الشرقي  الذي يخون زوجته، أو يتزوج من أخرى، أو الذي يطلق زوجته تعسفا؟ صعدت الدرج لشقتنا محملة بالأسى عليها، والأسى على كل النساء اللواتي حضرن في مخيلتي بقصصهن المؤلمة، وكنت أتساءل هل ستنصف النساء في زمن ما؟”. 188

إننا أمام سيرة بسعة آهة عميقة لم تنته بعد عقود طويلة من الخيبات والحزن واليأس، وأمل لا يخبو، يومض باستمرار، معلنا رغبة جارفة في دفن الماضي. إنها جدلية مؤلمة بين اليأس والأمل، قامت فيها نساء السيرة بأجمل خطوة في درب الأمل، هدم جدار الصمت، وتفجير آلام القهر المكبوت داخل حرائق النفوس المعذبة، وذاكرة يصعب عليها النسيان. “مشاهد لن يمحوها الزمن من ذاكرتنا المثقلة بالأوجاع والجراح… صور مؤلمة لواقع حقيقي”. 228

    (الذاكرة لعنة الانسان المشتهاة ولعبته الخطرة، إذ بمقدار ما تتيح له سفرا دائما نحو الحرية، فإنها تصبح سجنه. وفي هذا السفر الدائم يعيد تشكيل العالم والرغبات والأوهام.

وإذا كانت في حياة كل إنسان لحظات ومواقف تأبى أن تغادر الذاكرة، فليس لأنها الأهم، أو لأنها أعطت لحياته مسارا ومعنى، وإذ ربما لم تقع بنفس الدقة أو بالتفاصيل التي يتخيلها أو يفترضها، وإنما لفرط ما استعادها في ذاكرته، بشكل معين، ربما الذي تمناه، يوما بعد آخر، فقد أصبحت وحدها الحقيقة أو وهم الحقيقة). عبد الرحمن منيف

_________________________________

  • “نون المنفى: سيرة نساء من هناك”، إعداد وإشراف د. اشراقة مصطفى حامد ،دار الريم للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2021.
Visited 55 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي