غواية النساء بين البارابول ومطاردة الشوارع
سعيد بوخليط
حينما بدأ يعمُّ فوق سطوح المنازل، انتشار اللاقط الهوائي أو البارابول، أواسط التسعينيات، وقد كانت أثمنتها آنذاك ليست في المتناول القريب، بل احتاج أغلب المهتمِّين إلى اقتنائها بالتقسيط. جرى إبَّانها تحوُّل اجتماعي مهمٌّ للغاية، أثَّر نوعيا على مقوِّمات البنيات السوسيو- ثقافية القائمة طويلا، مثلما يحدث فعليا نتيجة كل المستجدَّات النوعية سواء كانت فكرة أو شيئا ماديا.
إذن، على غرار الانقلابات البنيوية، لم تعد أحوال الناس، بعد تبلور ثقافة البارابول، مثلما سادت قبل ذلك.
بهذا الخصوص، أذكر صديقا بادر حينها دون سابق تحضير يذكر، إلى خطبة فتاة كيفما اتّفق والزواج بها، ثم إسراعه بإحضارها إلى بيت والديه و أختيه؛ واحدة مطلَّقة وأخرى ولجت عتبة سن ”العنوسة” حسب التحديد العامي المتداول، كي يتقاسم الجميع الجحر الصغير. عندما استفسرته عن السبب الذي دفعه دفعا نحو هذه المجازفة المفاجئة، أجابني على الفور:
-“إنها لعنة البارابول ياصديقي، ومفعوله السحري على البلاد والعباد”.
أبانت ملامحي استغرابا، لطبيعة ردِّه الغريب، فاستفاض شارحا:
-”لم أعد قادرا على مقاومة غريزتي الملحَّة، وأنا أتابع مساء باندهاش الفضائيات؛ لاسيما تلك المستفِزَّتين. الأولى، تهتم بالمواعدة الغرامية صحبة نساء من فصيلة غير المعهودة في حياتنا اليومية، بحيث تطل على امتداد اليوم نسوة شقراوات كأنَّهن قادمات من عالم ثان؛ أشهى من العسل، يضعن رقم هواتفهن بكيفية تصحبها أساليب تغنُّج لذيذ. الثانية، خاصة بتقديم برامج تداريب الرَّشاقة، يفصح معها الجسم عن أرخبيلات تنحدر من الاستيتيقا الإغريقية تُكتشف للمرة الأولى بطريقة ساحرة. لذلك، أسرعت إلى الزواج”.
لم أتمالك نفسي، دوَّت قهقهتي. ضحك بدوره عن احتشام، ثم أطلق بدوره العنان لقهقهة معتبرة، تفرَّعت تدريجيا إلى ضحكات ارتدادية أضفت معاني عدَّة على رنين خبايا كلامه.
أيضا، شرع الناس في العودة باكرا إلى أوكارهم، غير أنهم مع ذلك أرجأوا موعد نومهم غاية أوقات متأخرة من الليل؛ ربما غاية أولى إشراقات خيوط الفجر، مما أثر تأثيرا واضحا على زمنهم البيولوجي. وبدأت الآيات في الانقلاب جذريا.
بالكاد مضت سنة واحدة، أنجب الصديق مولودا، زرته للتَّهنئة. بدا مرتبكا إلى حد ما، بحيث لم يكشف مزاجه عن انشراح عفوي أو صفاء روحي يعكس حقا أجواء اللحظة. أردت خلخلة فتوره بكلمتين خفيفتين، حتى أفهم سرّ شروده:
-”كيف الأحول الصحية لطفلة البارابول؟ فلولا قدوم الأخير، لظلَّت قابعة هناك في عالم السماوات السبع، وتأخَّر كل شيء إلى أجل غير مسمى!”
طبعا، التقط حيثيات الإشارة، مثلما كشفت ترانيم وجهه. ثم تقوَّس شكله مغشيا تحت وطأة هستيريا من الضحك.
لاشك، أنَّ البارابول، قد أسرع بالكثيرين إلى الزواج، نظرا لثورته على مستوى تكثيف الاهتمام بالجوانب الحميمة، وإعادة توضيبه لنزوعات تهتدي أساسا نحو المناطق السفلى، كما أعاد إرساء أدبيات التفكير في دروب بلوغ المرأة، التي ارتكزت كلاسيكيا قبل اللحظة الإعلامية الجديدة، على ملاحقات شبه ماراطونية اقتضت خبرة وذكاء تواصليين، استراتجيات متحايلة، نَفَسا طويلا، وقبل هذا وذاك حظَّا سخيَّا.
أستحضر في هذا الإطار، نموذجين متقابلين، يستحيل أن أتغافل عنهما حين استدعاء بعض ذكريات هذا الموضوع. انتميا إلى سياق زمن أضحى بعيدا، قبل حدوث اللقيا بالاكتشاف مابعد الحداثي، الذي انتقل بالتلفيزيون من وضع إلى وضع كيفي ومتقدِّم أكثر، منذ فترة الأبيض والأسود والشاشة الملوَّنة وصولا إلى حقبة الفضائيات الكاسح.
الشخص الأول، عرفته لسنوات ليست بالهينة. شكَّل انجرافه الهائم خلف النساء بلا فرامل، نقطة ضعفه. يكفي انبعاث طيف امرأة أمامه، لاسيما إذا امتلكت مؤهِّلات جسمانية من النوع ”البَلَدِي” مثلما ردَّد دائما، في خضم أوج نقاشاتنا داخل المقهى، أي الفتيات والنسوة الأقرب إلى البنية الجمالية التقليدية؛ المحافظات أكثر على الهندسة المحلية.
اعتُبر العنصر الأساسي ضمن حلقة، التأمت بالصدفة ثم اتسعت رقعة مريديها رويدا رويدا، إلى أن صارت اجتماعاتها اليومية للتحاور والتفكُّه، شبه طقس يومي لا يغيب عنه سوى مضطرٍّ اضطرارا.
مجمل القول، يجلس صاحبنا وعيناه لا تتوقفان البتَّة على مسح ورصد حركات العابرات، يلاحق الطيف المقصود بمختلف جوارحه غاية أبعد مدى، وأحيانا لا يطيق صبرا على البقاء محايدا فينهض من مقعده بطريقة تزعج الجالسين كي يسرع نحو الملاحقة،قد يعود بعد فترة قصيرة أو طويلة، أو لايعود سوى عشية اليوم التالي خلال حلول موعد نفس الجلسة؛ تحديدا مابعد صلاة العصر، بحيث يستمر اللقاء عموما غاية آذان المغرب، لكن قد يتقلص حيزه الزمني قياسا للمدة المقرَّرة حسب نوعية الأجواء السائدة.
خلال إحدى المرات، تمسَّك أخونا بموقفه وألحَّ على ضرورة مطاردته إحدى الفتيات، طيلة مسافة ليست بالهيِّنة، بحيث استنفذ حمولة مختلف تعابيره اللغوية وآليات تواصله المتذاكي، لكن عبثا ودون جدوى، بحيث لم تتفاعل قط مع خطابه ولم تنطق ببنت شفة، بل وحافظت تماما على تماسكها وهدوئها رغم فيض عباراته الممهورة حقيقة رغم إطرائها، بحسٍّ استفزازي إلى أن استدرجته دون وعي منه صوب وسط جامع الفنا، إبان بداية ساعة اكتظاظها، ثم فاجأته في عِزِّ انغماسه الخطابي، بحركة لولبية دقيقة جدا، أظهرت بشكل واضح إتقانها لفنِّ الكاراطي، فطرحته أرضا بسرعة خاطفة نزلت عليه كالصاعقة. تحلَّق الناس حول جثته، وقد انخرط أغلبهم في ضحك هستيري، بينما مدح آخرون صنيع الفتاة لأنهم تابعوا من مساحة بعيدة مضايقته لها وتحرُّشه بها، وهي غير راغبة بتاتا.
استمر كازانوفا لفترة شبه مغمى عليه. بدأ يتململ بصعوبة بالغة و الألم باديا على محياه، لكنه لم يتوقف عن ترديد عبارة تكاد لا تفهم، جراء تقطُّع حروفها:
-”الويل لوالدة أبِ أمِّها، سترين يا ابنة الكلب المسعور!”
لم تهتم الفتاة بما تفوَّه به، وإلا أضافت له تمرينا قتاليا آخر، لأنَّ كلامه لم يكن مسموعا كفاية نتيجة جلبة الضجيج المتصاعد جراء ازدياد فضول الناس، ثم اقتربت من وجهه وملامحها متأجِّجة سخطا و استهزاء:
-”كيف وجدتَ عزيزي دونجوان قُبلتي مثلما ألححتَ في الطلب، أليست حلوة بمذاق الحنظل البَلَدي حسب رغبتك. هل الطَّبَق شهيٌّ!”.
ثم غادرت.
أما النموذج الثاني، فينحدر من زمرة النوع النرجسي، البارع في إغواء النساء وإسقاطهن بين حبائله بكيفية قياسية. لا شغل له في هذا العالم، سوى التَّباهي بهذا الجانب. اكتنف حياته الشخصية الغموض، يقطن مع والديه الطاعنين سِنّا في إحدى المنازل العريقة بالمدينة القديمة، وبين الفينة والأخرى يفصح عن معلومة إتمامه المسار الدراسي غاية السنة الأولى من الجامعة وتوقفه، دون أن يذكر ولو مرة واحدة مجال تخصُّصه، ويشتغل موسميا خلال فترات متقطعة في الفنادق. ينمُّ شكله عن منحى بورجوازي، بصلعته اللامعة محاطة ضِفَّتَيها بشَعْر خفيف غطى حواشيها بطريقة أنيقة، وكذا نظَّارتين مدوَّرتين حسب حجم العينين على طريقة الطراز الكلاسيكي.
يقضي صباحه داخل المنزل مستلقيا في غرفته. بعد تناوله وجبة الغذاء، يرتدي بعناية ثم يسرع الخطى صوب شوارع المدينة، كي ينطلق رهان مطارداته. هكذاَ، تتزاحم لديه هويات وظيفية شتى، حسب دواعي السياق ونوعية الطريدة المتوخاة وفصيلتها: أهي من النوع المنيع؟ أم السهل؟ إلخ. يقترف خلال اليوم الواحد، عشرات الادعاءات، كذبا وتزييفا للمهنة والانتماء العائلي والرصيد البنكي ومدى تموقعه ضمن هرمية العلاقات العامة، كي يستحوذ على إرادات هؤلاء النسوة ويخضعهن لرغباته، وقتها لم تتجلى بعد المؤشرات الفاضحة للمنظومة الرقمية.
عاش سنوات على وهم تلك البطولات الدونكيشوطية، غاية أن انقطعت سيرته عني نهائيا بحكم تحولات الحياة وأعاصيرها.