كيف دخل الجيش الروسي باريس؟ (1-2)
د. زياد منصور
من المهم في هذه الظروف المصيرية التي تشهدها أوروبا والعالم استعادة بعض المحطات التاريخية، ذلك كي نرسم معالم تطورات واحداث، كان بالإمكان ان تغير في الخرائط والمواقع، وحتى في وجود الدول ككيانات جغرافية. أما الهدف من كل ذلك ومن هذا الاستحضار التاريخي للأحداث فهو بهدف أخذ العبر والتدقيق في طبيعة تطور الأحداث، وما قد تسفر عنه انقلابات في الظروف والأزمان. من بين هذه الأحداث استيلاء الجيش الروسي على باريس في 31 آذار- مارس 1814.
فمسار الثلاث سنوات الذي سلكته روسيا في 1812-1814، ألا يشبه ذلك المسار الذي سلكته روسيا في الأعوام 1941-1945؟ بدءاً من حدودها – من موسكو، ثم العودة – عبر نهر نيمان، ثم عبر الأراضي البولندية والتشيكية والألمانية إلى الحدود الفرنسية. كان العدو مختلفًا حينها، فهم حينها لم يذهبوا إلى برلين، بل ذهبوا إلى باريس. لكن المنطق العام للأحداث يوحي بان تكرار هذا الأمر قد يبدو مرئياً في حال تطورت الأحداث وأخذت منحنى خطيراً وتورطت فيها قوى ودولاً تسعى إلى ابتزاز الروس عبر البوابة الأوكرانية.
في صيف عام 1812، عندما عبر نابليون مع جيشه ذو “الاثني عشر لسانًا” حدود الإمبراطورية الروسية، بدا الأمر بالنسبة للكثيرين من الروس القاطنين على ضفاف نهر نيمان، أنّ ضفاف نهر السين والأحجار الرمادية للعاصمة الفرنسية كانت مجرد حلم أو شبح لا يمكن رؤيته. لكن الأمر حدث بشكل مختلف: في أقل من عام ونصف، رأى جزء من الشعب الروسي، وهو الجيش الروسي-باريس بكل سحرها الربيعي. حدث هذا الحدث المذهل الذي حصل في 31 آذار- مارس 1814، وفقًا للتقويم الغربي.
هناك العديد من المقارنات التاريخية ذات الأهمية الخاصة. على سبيل المثال، حول الحروب العالمية. إذ لا توجد معايير محددة يمكن من خلالها تعريف الصراع العسكري بهذه الطريقة. إذا انطلقنا من حقيقة أنّ أكثر من قارة تشارك في حرب ما بشكل أو بآخر، فيمكن حينها وفقاً لهذه القاعدة تسمية فترة ما يسمى بالحروب النابليونية بالحرب العالمية الأولى. فلمدة ستة عشر عامًا، لم تنجذب جميع الدول الأوروبية فقط إلى هذه الصراعات، ولكن أيضًا تركيا والولايات المتحدة وبلاد فارس. وإذا قمنا بحساب طموحات بونابرت العسكرية ليس في عهد قنصليته، ولكن من عهد الإدارة، فيمكننا أن نقول أنَّ الحملة الفرنسية 1798-1801 إلى مصر وسوريا، والتي كانت إيالات (مقاطعات) تابعة للباب العالي. كانت بشكل غير مباشر، شكلاً للمواجهة الأنجلو-فرنسية التي أثرت على روح العداء التي أبدتها بريطانيا في الهند.
النتيجة التي تم الحصول عليها بعد مؤتمر فيينا عام 1815، من حيث حجمها بالنسبة للعالم الأوروبي، ليست بأي حال من الأحوال أدنى من النتائج التي تحققت بعد هزيمة الرايخ الثالث. كل شيء حصل عليه بونابرت بالقوة تم الاستيلاء عليه وإعادته إلى أصحابه السابقين. تم إحياء الشروط الأساسية لتشكيل مملكة هولندا (في عام 1830 تم تقسيمها إلى هولندا وبلجيكا) والولايات الإيطالية والألمانية. بدأت أزمة لا رجوع فيها في الإمبراطورية العثمانية، التي استعمرت في السابق البلقان في أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. تمّ فتح الطريق أمام الاستقلال المقبل للنروج التي تخلصت من التاج الدنماركي ودخلت في اتحاد مع السويد. أخيرًا، صار مستوى نفوذ روسيا في الساحة الدولية يقارن بمستوى تأثير بريطانيا. وفي أوروبا القارية، أصبحت كلمتها الأكثر أهمية. الأمر الذي أعاد إنجلترا بشكل طبيعي إلى موقفها الأبدي الصارم فيما يتعلق بروسيا: انتهى التحالف لما يقرب من قرن، واستؤنفت المؤامرات العالمية.
علاوة على ذلك، فإن يوم الاستيلاء على باريس ليس مجرد لمحة عابرة في التاريخ الروسي. رغم أن البعض يتعامل مع الحدث باعتباره حدثاً عابراً. للتذكير في عام 2013، قدم نائبان في مجلس الدوما -من حزب روسيا الموحدة والحزب الديمقراطي الليبرالي – مشروع قانون إلى مجلس الدوما: لإدراج 31 آذار – مارس في قائمة أيام المجد العسكري لروسيا. عملياً لم يتم إقرار هذا الأمر، ولم ينل الاقتراح تأييد النواب الآخرين على الرغم من أن هذه القائمة تحتوي على أحداث، وإن كانت مجيدة، لكنها أقل أهمية بكثير. على سبيل المثال، انتصار سرب أوشاكوف على الأسطول التركي في خليج تندرا عام 1790. هل يمكن المقارنة بين هذا الحدث أو ذاك من حيث الحجم والنتائج؟
لا شك أن خطأ المؤرخين الروس، وتحديداً اليوم أنهم “لا يتذكروا سوى عام 1812. لقد اعتقدوا أن عام 1812 كان انتصارًا وطنيًا للشعب. وهم يتجاوزون الأعوام 1813-1814 ومن المثير جدًا أنهم نسوا يوم سقوط باريس عام 1814، باعتباره أعظم لحظة في التاريخ العسكري والدبلوماسي لروسيا القيصرية “.
عملياً لم يكن غريباً على الإمبراطور ألكسندر بافلوفيتش القيام بالأعمال المدهشة التي تحمل معان أخرى، وذات أهمية. جيوش الحلفاء في التحالف المناهض لنابليون السادس، بعد الانتصار في معركة الأمم بالقرب من لايبزيغ، وقفت طوال عام 1813 على الضفة الشرقية الألمانية لنهر الراين. لم يكن البريطانيون والنمساويون متحمسين للغاية لمواصلة الحرب. قاتل الدبلوماسيون حتى 1 كانون الأول. في النهاية، أدى ضغط القيصر الروسي، بدعم من الملك البروسي، إلى اتخاذ قرار القتال حتى النصر الكامل. في أماكن مختلفة، عبر حوالي 200 ألف جندي الحدود المائية مع فرنسا. عبر ألكسندر نفسه مع الجيش الروسي في 1 كانون الثاني- يناير. رغم أنه لم تتم دعوة الجنرالات الروس، الذين كانت وحداتهم وحدات الصدام الأولى للتنسيق مع أعلى المناصب القيادية في الوحدات التابعة للقوى المتحالفة. استمر البروسي بلوخر بقيادة الجيش السيليزي، اما الذي كان كان يُسمى سابقًا البوهيمي، كان يقوده النمساوي شوارزنبرج. لكن التأثير غير الرسمي لألكسندر الأول على كل من هذين القائدين وعلى هيئة اركانهم، أعاد التوازن الناجم عن الاختلال الذي حصل في إدارة المعركة.
لذلك، انتقلت الحرب طويلة الأمد مع نابليون لأول مرة إلى الأراضي الفرنسية. استمرت الحملة ثلاثة أشهر-يقال أنها مدة وجيزة. هذا هو الانطباع الذي يحصل عليه المرء من خلال اطلاعه على الكتب المدرسية. يتم اليوم ذكر معركتين فقط -استسلام باريس وتنازل نابليون! يتشكل هذا الانطباع جزئيًا أيضًا لأنه لعقود من الزمن لم تنشر المذكرات التي كتبها المشاركون في الحملات الأجنبية، وهم كثرة. لقد ترك فيدور جلينكا وبافل بوششين وإيفان كازاكوف وكونستانتين باتيوشكوف وألكسندر ميخائيلوفسكي دانيلفسكي ونيكولاي مورافيوف كارسكي وآخرين ذكرياتهم. وهي إلى درجة أو أخرى، تعتمد على الانطباعات الناتجة عن المشاركة الشخصية في المعارك، يؤكد هؤلاء، دون استثناء، أن حملة 1814، على الرغم من قصرها، كانت عنيفة ودموية إلى أبعد الحدود.
بغض النظر عن مسعى بونابرت، لكنه فشل في تجميع جيش موحد بحلول كانون الثاني- يناير 1814 ضد قوات الحلفاء، كان قادرًا فقط على حشد 70 ألف مقاتل. لكن عند أول معركة كبرى، في 17 كانون الثاني بالقرب من برين، حاول مرة أخرى إظهار أنه لم يفقد موهبته العسكرية. مستفيدًا من حقيقة أن جيش بلوخر، الذي كان يسير في الطليعة، كان منقسماً إلى مفارز منفصلة، حينها قام بونابرت بتحشيد قواته، وانقض على الفيلق الروسي الذي كان تحت أمرة المشير البروسي. على الرغم من حقيقة أن الخسائر من كلا الجانبين كانت متشابهة تقريبًا -3 آلاف فرد في كلا الجانبين -انسحب بلوخر من ساحة المعركة. بقي النصر التكتيكي لمصلحة الفرنسيين.
قبل ذلك بقليل، حدثت قصة أخرى في قلعة برين، حيث يقع المقر الرئيسي لجيش بلوخر. اعتبر المشير البروسي الميداني الرجل الطاعن في السِّن أن المعركة انتهت مع حلول الظلام. ولكن بعد ذلك انقض لواء فرنسي على القلعة وسرعان ما استولى عليها. بأعجوبة، خرج بلوخر من الأسر، بل كاد أن يقتل.
طوال هذا الوقت، تحركت مجموعة أخرى من الحلفاء، بقيادة شوارزنبرج، وكانت تناور عند الأجنحة. وفقط بحلول 20 كانون الثاني- يناير التحمت القوات. نتيجة لذلك، تمركز 90 ألفًا تحت قيادة بلوخر، بينما كان نابليون، الذي كان في الجوار، يقود نصف هذا العدد. لم يكن يريد القتال، لكن كان عليه ذلك. اندلعت المعركة بالقرب من قرية لا روتيير (La Rotierre) واستمرت يومًا كاملاً. فقط في الساعة 10 مساءً تلقى الفرنسيون أمرًا من إمبراطورهم بالانسحاب. وبلغت الخسائر عند كل طرف 6 آلاف قتيل. خسرت فرقة الحرس الشابة لدى نابليون الكثير من أفرادها، لكنه كان مستاءً أكثر من خسارة نصف المدفعية. هنا تحمل العبء الأكبر للمعركة وكما حدث في برين، الوحدات الروسية، وخاصة فيلق الجنرال أوستن ساكن.
توجه نابليون مع القوات إلى تروا، التي كانت تؤدي إلى باريس. بقي حوالي 150 ميلا حتى العاصمة.
حرب الأيام الستة!!
ظهر هذا المصطلح في تاريخ الحروب النابليونية بعد أن أوقع بونابرت خمس ضربات مؤلمة بالحلفاء في غضون ستة أيام. هناك سببان لذلك. عبقرية نابليون، الذي عرف كيف يناور بشكل جيد وتركيز القوات لتوجيه ضربة قوية في وقت محدد. والصعوبات في القيادة والسيطرة التي واجهها بلوخر وشوارزنبرج. كان البروسي، الذي كان يسير نحو باريس على طول وادي مارن، يميل إلى تجزئة قواته، ونتيجة لذلك تصرفت وحداته باستقلالية وتشتت، وأحيانًا كانت تير مجموعات متفرقة. فالنمساوي، الذي كان يتلقى بانتظام أوامر من فيينا بعدم اصطناع الحدث، كان يتأخر باستمرار، ويشق طريقه على طول ضفاف نهر السين، لكنه لم يعبره.
شامبوبيرت، مونتميرال، شاتو تييري، فوشامب، إتوج -هذه هي الأماكن التي خسر فيها بلوخر ثلث قواته في غضون ستة أيام، بدءاً من 29 كانون الثاني إلى 2 شباط- فبراير. في معظم الحالات، مات جنود وضباط روس كضحايا جراء “المواهب” التكتيكية لقائدهم البروسي.
كانت المعركة بالقرب من قرية شامبوبيرت مأساوية بالنسبة للفيلق التاسع من الجيش الروسي بقيادة الجنرال زخار أولسوفييف. تألف الفيلق، الذي تضرر بشدة في المعارك السابقة، من 3700 فقط من المشاة مع عتاد يقدر بـ 24 مدفعا. كان لابد من حدوث ذلك، فقد انتهى به الأمر أن وقع في مصيدة مجموعة نابليونية من ثلاثين ألف فرد وبحوزتها 120 مدفعاً. لا يسع المرء إلا أن يتساءل كيف استمرت هذه المعركة ليوم كامل!
لقد غطى لواء الجنرال بولتوراتسكي انسحاب بقايا الفوج حتى حلول الظلام. وحتى في الليل في الغابة، حيث انسحب المشاة الروس، كانت هناك مناوشات مع الفرنسيين. في إحداها، أصيب الفريق أولسوفييف، وتم أسره. في اليوم التالي، دعا نابليون زاخار دميترييفيتش وكذلك الأسير الجنرال بولتوراتسكي إلى الطاولة. وسأل كم كان عدد الروس الذين واجهوه. عندما سمع الجواب، لم يصدق. في تلك الليلة، كتب الإمبراطور الفرنسي إلى شقيقه جوزيف في باريس أنه انتصر في المعركة ضد “18 ألفًا على الأقل”. بعد أن هدأ، قال بونابرت: “بعض الروس يعرفون كيف يقاتلون بهذه القسوة”. وخرج الروس من الجحيم بـ 1700 فرداً. لكن -مع الجرحى وجميع الرايات.
في أوائل شباط، لم يكن جيش الحلفاء سعيدًا. في معركة فوشان، كاد سلاح الفرسان الفرنسي أن يقتل بلوخر نفسه، ومعه جنرالات الفيلق كلايست وكابتسيفيتش. رفع ماتفي إيفانوفيتش بلاتوف المزاج العام للقوات. في 2 شباط- فبراير، وهو اليوم الذي تلقت فيه قوات بلوخر ضربتين بالقرب من فوشان وإيتوز، توجه الدونيتسي (نسبة لدونيتسك) المجيد إلى… فونتينبلو!
هذه هي المقر الصيفي لملوك فرنسا والمكان المفضل للإمبراطور نابليون وعائلته. 50 كيلومترا إلى باريس! ومع ذلك -في عام 1809، تم إخراج البابا بيو السابع، بناءً على أوامر من بونابرت، من روما، وسرعان ما وجد نفسه أي البابا ضيفًا أسيراً في فونتينبلو. ربما كانت الرغبة في إطلاق سراح البابا المتمرد، إلى جانب اعتبارات أخرى، بدافع من ألكسندر الأول عندما استدعى بلاتوف إلى مقره الرئيسي في لانغر وأعطاه أمرًا شفهيًا للقيام “بزيارة” فونتينبلو بالمعنى العسكري. ولكن، ليس وحده، ولكن مع 3 آلاف من القوزاق. ونسق بلاتوف تفاصيل الخطة مع باركلي دي تولي. (يتبع)