الرئيس التوافقي والأفق المسدود

الرئيس التوافقي والأفق المسدود

د. وفيق ريحان

إنتهت الجلسات الإنتخابية السبعة لإنتخاب رئيس للجمهورية في لبنان  دون أي تقدم على هذا الصعيد، وسط إصرار من قبل فريق معارض على الإستمرار بترشيح النائب ميشال معوض، ودون أي تقدم على سائر الجبهات الأخرى، وبقيت الورقة البيضاء سيدة المواقف وهي تعبر بوجه خاص عن إرادة الفريق المسمى “بفريق الممانعة” في إطار المجلس النيابي، على أمل التوصل الى وفاق عام حول إختيار المرشح التوافقي الذي يشكل رغبة عند الأكثرية. إلا أن هذه العملية التوافقية لم ترس حتى الآن على إسم المرشح الذي تتوافر لديه المواصفات المطلوبة ليشكل قناعة سياسية عند غالبية الكتل النيابية. ولقد تبين من خلال الإصطفافات الناجمة عن نتائج جلسات الإنتخاب الست السابقة، أن الأمور لم تتجه بعد نحو إختيار الرئيس التوافقي، بقدر ما عبرت عن مظاهر الترقب والحذر المتبادل بين الكتل والمكونات السياسية داخل البرلمان، وعمليات “جس النبض” حول إمكانية التوصل للحصول على الحد الأدنى المطلوب من أصوات النواب المقترعين بالغالبية المطلقة والمتمثلة دستورياً بما لا يقل عن ال 65 صوتاً. لكن هذه المحاولات لم تنجح حتى الآن، وأنه في حال توفر النصاب الدستوري لها على حين غفلة، يصبح بإمكان أي من الفريقين المتنافسين العمل على تعطيل الجلسة بإفقادها لهذا النصاب المحدد بالمادة 49 من الدستور، والذي كرسته الأعراف الدستورية منذ سنوات عدة. فمن هو الرئيس التوافقي الموعود في ظل الظروف الراهنة؟ وحيث يقتضي هذا الموضوع البحث والتطرق الى الجوانب السياسية والقانونية والمجتمعية التالية:

أولاً : عدم صوابية جنوح بعض الكتل نحو إنتخاب رئيس تحدي. إن المناورات التي تحصل حالياً في الجلسات الإنتخابية المتتالية لا تهدف كما يبدو الى فوز أحد المرشحين المعلنين، بقدر ما تعبر عن إبراز إحتياط القوة لدى كل فريق من الكتل المتنافسة بما فيها أصحاب الورقة البيضاء، وتسمية الكتلة بدل الإسم، بما يماثل الورقة البيضاء أيضاً. لكن في الحقيقة إذا كان الهدف من إبراز القوة أو الرصيد الإنتخابي يصب في خانة تجميع القوى في مواجهة الفريق الآخر من أجل التغلب عليه والفوز برئيس مواجهة، وهذا ضمن الإحتمالات الممكنة لكلا الطرفين الأساسيين المتواجهين، أي محور الممانعة من جهة، وتجمع قوى المعارضة والتغيير والمستقلين من جهة ثانية إذا توحدوا إنتخابياً في مواجهة المحور الأول، فإن فوز أي فريق منهما بمرشح تحدي سوف يزيد الإنقسامات السياسية والإجتماعية من حيث الواقع، ولن يتمكن الفريق الرابح حتى من تشكيل حكومة تضم جميع المكونات السياسية و الطائفية الأساسية في الوطن، وسوف تكون عرضة للمواجهات أو العرقلة في أغلب الأحيان، في الوقت الذي تمر فيه البلاد بأخطر وأدق المراحل على جميع المستويات السياسية والإقتصادية والإجتماعية، ولن تحوز على ثقة المجتمع الدولي أو أن تنجح في إنقاذ الوطن من الأزمات المحدقة، وسيكتب لها الفشل بصورة شبه حتمية. كما أن التمعن في الأرقام، ما زال متقارباً بين هذين الفريقين المتنافسين حتى الآن.

ثانياً: إن إختيار رئيس للجمهورية في لبنان، يأخذ دائماً أبعاده الإقليمية والدولية، ونحن في هذا الوطن الصغير والمكبل بالأزمات والمعوقات على جميع الأصعدة، لن يتمكن من التغاضي عن هذا الجانب المؤثر والذي بتنا بأمس الحاجة الى مساعدته بالوقوف الى جانبنا لتجاوز تلك الأزمات، كما كان يحصل سابقاً، وأن يكون الرئيس المنتخب قادراً على إعادة نسج العلاقات الخارجية العربية والدولية والإقليمية، دون أن يكون في موقع الإختلاف غير المبرر مع أي من الدول الصديقة للبنان، والتي كان لها الفضل الكبير في مد يد المساعدة إليه بعد الحروب والأزمات المدمرة والمتتالية منذ عشرات السنين.

ثالثاً: يفضل أن يكون الرئيس التوافقي غير حزبي في هذه المرحلة الحرجة، ومستقلاً عن المحاور السياسية الداخلية أو الخارجية بشكل موضوعي، بما يمكنه من أن يكون حيادياً وعلى مسافة متوازية من جميع المكونات السياسية والطائفية والمناطقية للوطن، وأن لا ينخرط في منطق “المحاصصة في تشكيل الحكومة المرتقبة، وأن يكون لجميع الشعب اللبناني ومعبراً عن المصلحة الوطنية العليا للبلاد وليس لفريق أو محور سياسي بحد ذاته، وأن يكون ذا رؤية إنقاذية تخوله التعاطي الإيجابي مع السياسة العامة للحكومة ووزرائها، وفي نسج العلاقات و الإتفاقيات والمعاهدات الخارجية على قاعدة تأمين المصلحة الوطنية العليا للبلاد.

رابعاً : إن جميع الأسماء التي طرحت حتى الآن، يمكن إعتبارها من قبيل مرشحي المواجهة أو المناورة السياسية، وقد يصبح من غير المفيد إعادة طرحها مجدداً فيما لو نجحت عملية التفاوض لتسمية الرئيس التوافقي، وأنه ينبغي إعادة تسمية مرشحين جدد في ظل حوار مفتوح بين جميع الكتل النيابية دون أي إستثناء، ليحوز المرشح التوافقي على موافقة هؤلاء بنسبة عالية، تخوله النجاح بالأكثرية المطلوبة، وقد أصبحت حالياً 65 صوتاً على الأقل بعد توفر النصاب الدستوري لجلسة الإنتخاب المتفق عليها قانوناً بثلثي أعضاء المجلس النيابي في دورات الإنعقاد المتتالية.

خامساً : إن هذا الإستحقاق الرئاسي هو إمتحان لجميع القوى السياسية، ومدى تفهمها وحرصها على تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية الضيقة أمام المجتمع اللبناني والدولي، الذي يراقب بإهتمام تصرفات الجميع إزاء هذا الإستحقاق المصيري للإنطلاق في مسيرة الإنقاذ، وتوطيد روابط المحبة والمواطنية بين اللبنانيين المتعطشين فيما بينهم لتكريس روحية جديدة في التعاطي السياسي المحلي في ظل هبوب رياح التغيير التي تعصف في البلاد وفي المحيط الإقليمي والدولي، وهم ينظرون بعين الأمل والرجاء أن تخطو البلاد قدماً نحو إعادة بناء الدولة والمؤسسات الدستورية على أسس ثابتة وديمقراطية، وتلمس الآفاق المستقبلية بعودة الإستقرار والإزدهار الى ربوع الوطن في ظل حكومة قادرة على الإنقاذ والتغيير وإعادة نسج العلاقات الدولية بمرونة وشفافية تمكننا من رأب الصدع الذي سببته التشنجات السياسية الداخلية في العلاقة مع أصدقائنا في العالمين العربي والدولي.

سادساً: لقد باتت القوى السياسية  المحلية على إختلاف إنتماءاتها رهينة الإنصياع لمنطق التوافق الداخلي وتغليبه على خيارات المواجهة أو التحديات السلبية فيما بينها، وإن إضاعة الوقت في جلسات جس النبض وإختبار المواقف ومحاولات الإلتفاف التي تمارسها بعض القوى السياسية المحلية بصدد إصطياد بعض الأصوات في المجلس النيابي وإضافتها الى رصائدها المتأرجحة لن يؤدي الى أية نتيجة حاسمة كما يبدو، وأن الإستمرار في هذا النهج بالإصرار على مرشحين ينتمون الى محور معين سوف يزيد الإنقسامات الداخلية والتعقيدات السياسية وبالتالي السير بالوطن نحو المزيد من التدهور والتراجع على جميع الأصعدة، ولعلها ستكون الفرصة الوحيدة والنادرة أمام اللبنانيين من أجل تغليب مصلحة الوطن على المصالح الفئوية والتوجه نحو حالة إندماجية جديدة قد تعيد خلط الأوراق بين سائر الكتل السياسية الحديثة والتقليدية، ورسم خارطة طريق جديدة أمام اللبنانيين تلزمهم بالتعاضد والتكاتف من أجل مصلحة لبنان خلافاً للمراحل السابقة التي دمرت مرتكزات الدولة وأغرقت البلاد في حقول من الرمال المتحركة، بمعزل عن التدخل الخارجي والسافر في شؤوننا الداخلية.

إن هذه المسؤولية الوطنية العليا ليست ملقاة فقط على عاتق ما يسمى بقوى المعارضة والتغيير من جانب واحد، بل هي بالأحرى من مسؤولية كتلة نواب محور الممانعة من جهة ثانية، وهي مسؤولية مشتركة بين الفريقين على حد السواء وينبغي أن يتم التعاطي من قبل الفريقين بالنسبة لإنتخاب رئيس الجمهورية من منطلق الإحساس بالمسؤولية الوطنية المشتركة، وتعبيد الطريق نحو إعادة تشكيل حكومة جديدة تجتمع فيها هذه الإرادة المشتركة في إنقاذ الوطن من أزماته المستعصية ويلتف حولها المواطنون من جميع المناطق والإنتماءات والميول السياسية والإجتماعية وإلا فإننا قادمون على مرحلة أشد قساوة وتعقيداً وتدهوراً من جميع المراحل السابقة.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. وفيق ريحان

أستاذ جامعي