السلطـان ظـل الله

السلطـان ظـل الله

 عز الدين العلام

   حدث ذات مرّة أن كنت أعيد قراءة كتاب الشيخ علي عبد الرازق حول “الإسلام وأصول الحكم”، فخطر ببالي درسا دينيا من الدروس الحسنية التي تُعقد بمناسبة شهر رمضان. كان هذا الدرس في حضرة الملك الراحل الحسن الثاني تحت عنوان “السلطان ظل الله في الأرض” لصاحبه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق، السيد عبد الكبير العلوي المدغري، كلّه تبرير مقنّع للاستبداد الديني – السياسي. كما تذكّرت أيضا درسا دينيا آخرا افتتح به وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الحالي السيد أحمد التوفيق سلسلة الدروس الحسنية في حضرة الملك الحالي محمد السادس، يتحدّث فيه عن مفهوم البيعة، مستحضرا غير ما مرّة فكرة كون السلطان ظل الله في الأرض. وتساءلت في نفسي عن مدى صلاحية استعمال مثل هذه العبارة في مغرب اليوم الذي يشهد سباقا محموما مع الزمان للوصول إلى برّ أمان الدولة الحديثة، بآلياتها السياسية، ومؤسّساتها الديموقراطية…

 قد يكون هناك ألف مبرّر ومبرّر لدرس الوزير الراحل أمام الملك الرّاحل، ولكن ما عساها تكون الحكمة في إحياء هذه العبارة المخيفة من طرف الوزير الحالي أمام الملك الجديد. فلا الوزيران المعنيان يتشابهان، ولا هو موكول لهما نفس الدور السياسي، ولا الملك الحالي يشبه الملك الراحل، ولا مغرب الأمس هو مغرب اليوم.

لم يعد لهذه العبارة المنتمية لعصور الاستبداد المظلمة، الشرقية منها والوسيطية، أيّ مبرّر للوجود كخلفية ثقافية، وبالأحرى أن يكون لها اليوم موقع قدم في الحياة السياسية. والسبب بسيط، وهو تشريعها للاستبداد السياسي.

نعم، بإمكاننا أن نعثر بسهولة على انعكاسات شتى لفكرة المماثلة بين الإله والحاكم داخل التراث السياسي الإسلامي. فهذا فقيه يرى “أن الملك خليفة الله في أرضه، الموكل بإقامة أمره ونهيه، قلّده بقلائد الخلافة (…) وأتاه من ملكه”. وهذا فقيه ثاني يرى أنّ الله وضع لعباده سننا وفرائض يرجعون إليها، ونصّب لهم حكاما. ولعلّ الفقيه المغربي الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي، في كتابه “سراج الملوك”، أوجز القول وأحكمه، حينما اعتبر وجود السلطان نفسه، “حكمة إلهية”. فلولاه، “لما كان لله في أهل الأرض حاجة”. بل إن السلطان يصبح “من حجج الله على وجوده سبحانه ومن علاماته على توحيده…”. فكما لا ينتظم العالم إلا بالله الواحد الأحد، لا يستقيم السلطان إلا بوحدانية الحاكم، و”لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا” كما جاء في القرآن الكريم.

ولو عدنا لمقدّمات بعض محقّقي التراث السياسي الإسلامي، لوجدناهم يثيرون نفس المسألة. فهذا أحدهم، يربط بين مبدأ “طاعة الملوك وتبجيلهم” واعتبارهم “ظل الله في الأرض” لجمعهم بين “الرئاسة الدينية والدنيوية”. وهذا آخر يؤكد فكرة “المماثلة” باعتبار “أن الحاكم السياسي هو ذاك الإنسان الذي اصطفاه الله من بين العباد، وزوّده باستعدادات كافية من أجل حكم الجماعة” التي تتحلّق حوله بصفته “الملك الظل الإلهي الذي يستمد سلطانه من الله”.

في دراسته للفكر السياسي العربي، لاحظ المرحوم د. عابد الجابري أن العقل السياسي العربي ظلّ مسكونا ببنية المماثلة بين الإله والأمير، وهي المماثلة التي تجاوزت الخطاب السياسي لتتحوّل إلى خطاب أدبي يخلع على الأمير مباشرة صفات الألوهية… وهي نفس الخلاصة التي سبق للشيخ على عبد الرازق أن بسطها بقوله: “وأنت إذا رجعت إلى كثير مما ألّف العلماء، وجدتهم إذا ذكروا في أوّل كتبهم أحد الملوك أو السلاطين، رفعوه فوق صف البشر، ووضعوه غير بعيد عن مقام العزّة الإلهية”.

وطبعا، لا تخصّ فكرة المماثلة بين ذات الحاكم والمقام الإلهي حضارة الإسلام، بل نجد لها صدى في العصر الوسيط المسيحي. أمّا جذورها، فممتدّة في حضارات الشرق القديم. فقد سبق لفراعنة مصر أن اعتبروا أنفسهم آلهة، وتدرّج الأمر إلى أباطرة بابل الذين خفّقوا من هذا الغلّو ليتصوروا أنفسهم أبناء للآلهة، ثمّ حصل نوع من الاحتشام في الحضارة الفارسية التي اكتفى ملوكها برهْن تصرفاتهم وسياساتهم بمشيئة الله وإرادته، وطبعا، هي الحضارة التي ورث العرب المسلمون، في ظلّ جهلهم لأيّ منظومة سياسية سابقة، أجهزتها السياسية والإدارية. وإذا أخذ العرب عن الفُرس، فلحاجة تاريخية، ووجود انجذاب بين هاتين الأمّتين. ولعلّ أبرز نقاط الالتقاء، خلافا لما قد يُظن، هو المسألة الدينية، وتحديدا العلاقة بين المجالين الديني والسياسي، كما يتوضّح في الوصية التالية من وصايا “عهد أردشير”، وهو آخر ملوك فارس:

“واعلموا أن المُلك والدين أخوان توأمان، لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أسّ المُلك وعماده، ثم صار الملك بعد ذلك حارس الدين، فلا بد للملك من أسّه، ولا بد للدين من حارسه، لأن من لا حارس له ضائع، وما لا أسّ له مهدوم… واعلموا أنه لن يجتمع رئيس في الدين مسرٌّ ورئيس في الملك مُعلن في مملكة واحدة قطّ إلا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأن الدين أسّ والمُلك عماد، وصاحب الأسّ أولى بجمع البنيان من صاحب العماد”.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عز الدين العلام

باحث وأكاديمي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *