عبد الحميد مهري: رجل بحجم قضية ووطن…

عبد الحميد مهري: رجل بحجم قضية ووطن…

جورج الرّاسي

   لم أكتب عنه قبل الآن لأنني لا أتقبل بسهولة رحيل بعض من عرفتهم، فقد رافق دربي على امتداد ثلاثين سنة وربما أكثر. غادرنا في 30 / 1/ 2012  عن 85 عاما بعد  أسابيع من الصراع مع المرض في مستشفى عين النعجة العسكري.

   يستذكره كل من تعرف عليه في الذكرى الحادية عشرة لذلك الرحيل.

    هذا الرجل اختصر في مسيرته كل قضايا الجزائر والوطن العربي.

   من مواليد العام 1926 في مدينة الخروب ناحية قسنطينة شرق الجزائر، رافق  التحضيرات  لحرب التحرير من الاستعمار الفرنسي (1954 – 1962) منذ إرهاصاتها الأولى. ودون ذكرياته عن تلك المرحلة  بكل أسرارها وخفاياها في شهادة نشرها بتاريخ  20/ 10 / 2001  تحت عنوان: “إضاءات في تاريخ الثورة”.

     وحدة المغرب العربي  أولا…

    تقلد عبد الحميد مهري منصب “وزيرة شؤون المغرب العربي” في الحكومة المؤقتة التي تشكلت قبل الاستقلال برئاسة فرحات عباس. وبهذه الصفة رافق فرحات وبوصوف وأحمد بومنجل والدكتور فرنسيس إلى “مؤتمر طنجة  لوحدة المغرب العربي”  – هكذا كان اسمه الرسمي –  الذي انعقد في مدينة  طنجة المغربية في الفترة الواقعة ما بين 27  و 30   أبريل / نيسان 1958 . ضم الحضور وفدا تونسيا رأسه الباهي الأدغم، ووفدا مغربيا برئاسة علال الفاسي وعضوية المهدي بن بركة وأحمد بلفريج وعبد الرحيم بوعبيد والمحجوب بن الصديق  والفقيه محمد البصري سليل جيش تحرير الأمير عبد الكريم…

   في الجلسة  الافتتاحية التي انعقدت في قصر مرشان ألقى مهري كلمة الجزائر، وتحدث بلفريج باسم المغرب، وتمثلت تونس بكلمة الباهي الأدغم…  

   نحن في العام 1958  وفي شهر نيسان / أبريل… يعني بعد شهرين على  وحدة سورية ومصر وقيام “الجمهورية العربية المتحدة”… حين كان المد العربي في أوجه، و بدا أن أحدا لن يستطيع الوقوف في وجهه..

كان الهدف المباشر أن تعم الثورة كل أرجاء المغرب العربي دفعة واحدة، فلا تعود فرنسا قادرة على مواجهة هذا الزخم… ويتم توحيد المنطقة في غمرة تلك الهبة الجامحة…

لكن واحدا جاء حينها إلى السلطة في فرنسا التقط الإشارات باكرا و”قلب علينا الطاولة”  – كما قال لي مهري في إحدى الجلسات – ألا وهو الجنرال ديغول الذي سرع المفاوضات على  استقلال الجزائر لضرب إمكانية  امتداد الثورة…

 من بوزريعة… إلى  سفارة باريس…

   تعرفت على عبد الحميد مهري أول مرة في شهر تشرين الأول / أكتوبر من عام 1974، حين زرت الجزائر لإعداد ملف حول مختلف أوجه النهضة العمرانية  بعد مضي 12  عاما على الاستقلال. وبما أن الناحية الثقافية كانت تحتل مركز الأولوية  في سلم اهتماماتي كان من الطبيعي أن أستمزج آراءه في هذا الموضوع. زرته في مكتبه في دار المعلمين في بوزريعة على تخوم العاصمة، ودار حديث طويل نقلته حينها. ولا أخفي أن اندفاعته “العروبية” أدهشتني وأفرحتني، وربما هذه هي القطبة غير المخفية التي جعلت صداقتنا تمتد على أكثر من ثلاثة عقود، رغم أنه كان يكبرني سنا وقدرا ووراءه تاريخ نضالي حافل…

   لكن ما فاجأني من ناحية أخرى أن رجلا بهذا الحجم يتم حشره في مكتب متواضع، وتسليمه مهام إدارية يمكن أن يقوم بها أي استاذ  من مستوى  متوسط، في حين أنه مؤهل لقيادة بلد…

   علمت فيما بعد أن الرئيس بومدين رحمه الله لم يكن يأمن جانبه، لا خوفا من أن ينافسه على السلطة لا سمح الله، ولكن كان يظنه ذو ميول “رجعية” أو “إسلاموية” لا تتناسب مع صفة “مكة الثوار” التي اكتسبتها العاصمة الجزائرية  في تلك الأيام”.. فركنه في منصب إداري ثانوي… والواقع لم يكن كذلك….

الوزير والسفير  و”الحوار”…

   مع مجيء الشاذلي بن جديد إلى السلطة بعد الرحيل المفاجئ  والملتبس  للرئيس بومدين (ما زالت الفرضية الأقرب إلى التصديق هي فرضية تسميمه على  يد المخابرات الإسرائيلية  قبل ذلك ببضعة أسابيع  لدى تواجده في دمشق…).. المهم أنه مع تسلم الشاذلي رئاسة الجمهورية باعتباره “أقدم ضابط في أعلى رتبة”، تغيرت الأمور تماما بالنسبة لمهري… الذي ربطته به لاحقا روابط مصاهرة عائلية…

   تولى في مرحلة أولى عام 1979 وزارة الثقافة والإعلام، وهذا هو ميدانه المفضل، ثم عين في مرحلة ثانية سفيرا في باريس بين عامي 1984 و 1988، ويعلم الله  كم هي مهمة هذه السفارة نظرا للماضي الفرنسي الاستعماري، وتشابك المصالح بين البلدين، ووجود جالية  جزائرية كبيرة في فرنسا…

جورج الراسي مع سي عبد الحميد..  "في منزلي في جبل لبنان -1997"
جورج الراسي مع سي عبد الحميد..           “في منزلي في جبل لبنان -1997”

 

   وبالطبع تتابعت اللقاءات معه في العاصمه الفرنسية حيث كنت أمارس عملا صحافيا متعدد الأوجه، وكان لي مكتب صغير يقع على جادة “الشانزليزه – رقم 34 ” أسست فيه “المركز العربي للتوثيق والإعلام”، الذي  كان يصدر نشرتين دوريتين  بالفرنسية Actualité Arabe وبالإنجليزية  Arab News & Reports توزعان بالاشتراك على مراكز الأبحاث والجامعات وكبار المسؤولين وأعضاء الجسم الديبلوماسي.. الخ…

هنا دخل سي عبد الحميد على الخط … وقد لا يعرف الكثيرون أنه هو صاحب فكرة إصدار مجلة “الحوار “…

هو الذي اختار العنوان، وهو الذي وفر المكاتب، وهو الذي تابع العمل خطوة خطوة… وكانت الاجتماعات التمهيدية تعقد في منزل السفير (على  مقربة من غابة بولونيا على ما أذكر…).. وكان يحضرها العديد من الأصدقاء المتحمسين للمشروع، وعلى رأسهم الكاتب والمفكر والوزير والسفير الصديق محمد الميلي رحمة الله عليه… فقد كان سي عبد الحميد  يرى أن رصيد الحب الهائل الذي  تتمتع به الجزائر على أمتداد الوطن العربي بفضل الثورة المسلحة الرائدة والمنتصرة… لا بد من المحافظة عليه وتطويره… وكان على حق…

الأمين العام لجبهة التحرير الوطني…

   وصل  عبد الحميد مهري إلى قمة الهرم حين تقلد الأمانة العامة لجبهة التحرير الوطني بين عامي 1988 و 1996 ، وكانت الجزائر  قد دخلت النفق المظلم فيما سمي “بالعشرية السوداء”  أو “الحمراء”.. إذ أن سوادها كان لا يقل عن نزيف الدم الذي رافقها… وذلك بعد أن دخلت الجزائر مرحلة التعددية السياسية  في أعقاب 26 عاما من الأحادية…

   حاول سي عبد الحميد ما قدر عليه من أجل مد الجسور بين مختلف الفرفاء  وإيجاد حلول سلمية للأزمة..

   وكان لقاء “سانت إيجيديو” في روما بحضوره وحضور أهم الأحزاب الفاعلة حينها على  الساحة الجزائرية أبرز تلك المحاولات…

  لكن ذلك لم يثنه عن متابعة الشأن العربي… فكان من مؤسسي “المؤتمر القومي العربي” في بيروت، الذي عقد إحدى دوراته في الجزائر،  وتسلم أمانته العامة بين عامي 1995 و 2000 ..

     كان ذلك الرجل جسرا بين الجميع، داعية سلام، ورائدا من رواد العروبة المتفتحة…

   لم يكن يربطه بمشرق الوطن إيمانه بالوحدة العربية فقط، بل إن زوجته كانت من حلب ..

   ويعلم الله كم عانى حين أصيبت بذلك المرض الخبيث، وكم شعر بالضيق… لكنه كان يأبى أن يمد يده لأحد…

   وقد أهداها تلك الشهادة التي كتبها بعنوان “إضاءات في تاريخ الثورة” قائلا :

<

p style=”text-align: justify;”>“تحياتي وتشكراتي أزفها لزوجتي التي تحملت الأعباء والمحن التي عشتها وقاسمتني إياها من غير أن تشكو لي يوما… وكانت دوما تتحلى بفطنتها وتحتفظ ببرودة دمها رغم تعرضها لمضايقات الشرطة الفرنسية، وحافظت على الكثير من الأسرار، لكنها للأسف لم تقو على الحفاظ على صحتها…”رحمك الله  يا أبا سهيل… فقلما تجود دنيانا بأمثالك.

شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *