تونس: نهاية دراماتيكية للانتقال الديمقراطي وإعلان “دولة الخليط”
يبدو أن آفاق الحل السياسي في تونس لن تكون في متناول الفاعلين السياسيين وقوى المجتمع المدني المُؤثرة في تفاصيل العملية السياسية. حيث ينفرط عقد العملية الديمقراطية وتتساقط حبّاته، حتى غدا هشيما تذروه رياح الديكتاتورية الناشئة في تونس.
من الواضح أن التاريخ السياسي تُعاد صياغته على نحو يوافق طموحات ومشاريع رئيس الدولة، في اتجاه توزيع أفقي للسلطة لا يُوازيه هندسيا أي نوع من خطوط الرقابة أو التعديل والنقد. في الاثناء، تُواصل قوى المعارضة لمسار 25 جويلية وما بعدها ممارسة ما تعهدت به من أدوار في اتجاه الضغط وتعبئة الأصوات والطاقات من أجل إعادة تعديل بوصلة السياسة في تونس.
غير أن تحركات رئيس الدولة في اتجاه إرساء مشروع التنسيقيات أو البناء الأفقي، تجد لها أرضية مُهيّئة في غياب الالتقاء على مشروع موحّد يطعن فيما يطرحه رئيس الدولة، ويرسم في نفس الوقت حزمة الإصلاحات الضرورية لسيرورة الانتقال الديمقراطي طيلة عشرية كاملة.لا يمكن إنكار حجم الترهلات التي أصابت الجسد السياسي في تونس منذ لحظة 2011، حيث فشلت النخبة السياسية في تدبّر شروط إنجاح المرحلة وتقديم ما تنتظره مُنعرجات السياسة وضرورات الفعل. في هذا الصدد، يمكن تكثيف تلك الإخفاقات في العناصر التالية:
1- لم تتمكن النخبة السياسية في عشرية الانتقال الديمقراطي من استيعاب طبيعة اللحظة وتطعيمها بما يُلائمها من مُضادّات الارتداد نحو ما قبل 2011. بحيث برزت صراعات المجموعات السياسية، وتخندق الجميع في زوايا البحث عن التموقع وتحصيل العائد السياسي الشخصي.
2- ظلت الدولة تشتغل بعقلها الإداري في سياق تميز بانهماك الفاعل السياسي في تركيز إحداثيات تموقعه سواء في الحكم أو المعارضة، مع عدم استقرار سياسي وخواء تنموي. هذا ما حال دون خلق البدائل وتحيين العقل السياسي الانتقالي. أدى ذلك إلى بروز دولة هشّة تُعيد انتاج أسباب فشلها وتعمل على تصريف مواطن الضعف في كامل مفاصل آلاتها المُعطّلة أصلا.
3- ساهمت التوافقات السياسية – وهي ماركة تونسية مسجلة – في إضعاف المتفوق سياسيا وتذرية الضعيف، حيث لم تنجح مناورات “تضييق مربع الأعداء وتوسيع دائرة الأصدقاء” في اختفاء العدو السياسي وديمومة الصديق. بل، انفرط عقد التحالفات وانصرف الجميع نحو البحث عن أشكال أخرى من التحالفات لكسب المقاعد النيابية وتأجيل المعارك الحزبية الداخلية.
4- بُعيد انتخابات سابقة لأوانها، وصعود شخصية سياسية بشروط العملية الديمقراطية – نقصد رئيس الجمهورية قيس سعيّد – انتقلت ساحة المناورات السياسية ومركزة القرار من البرلمان والقصبة إلى القصر الرئاسي، حيث تداعى الفاعلون السياسيون نحو تصعيد الأنموذج السياسي المثالي لشخصية تغافل الجميع على أنها ترفض شكلا ومضمونا شروط وكيفية إدارة العملية السياسية.من خلال العناوين التي قدمنا أهمها باختصار شديد.
يبدو أن ضحايا 25 جويلية 2021 السياسيين، هم أنفسهم من ساهموا في التعجيل بلحظة القطع مع المسار الديمقراطي من خلال تأسيسهم لدولة اختلط فيها حابل التوافق بنابل الصراعات المُتكررة والموهومة. في سياق تعداد الغنائم التي حصّلها رئيس الدولة من واقع عزفه المنفرد على أوتار السياسة منذ 7 أشهر، يبدو أن ملامح دولة الاستبداد آخذة في التشكّل مرسوما يُلاحق آخر، مُستعينا بتراكمات الدولة الواهنة وموظّفا لخليط من المفاهيم والقراءات التي تُنبئُ بتأسيس دولة الخليط Mixed State.تتجه الدولة التونسية إلى الرُسوّ على مرافئ من الحكم الفردي والرأي الأحادي، وفي اتجاه شخصنة الدولة في صورة رئيسها الذي يستعين على قضاء حوائجه السياسية بـ :
أولا بتوظيف ما لا يحتمل التأويل من نصوص القانون لتحصيل عائدات سياسية تمكنه من فرض الرأي وتوجيه دفة العملية السياسية.
وثانيا بتسطيح القضايا الحارقة والالقاء بها في مربع النقاش العمومي الذي لن يزيدها سوى تعقيدا وغموضا، وذلك باستعمال الاستشارة الالكترونية والحملات التفسيرية التي يجد “اساتذتها” منابر إعلامية تمكنهم من القاء دروس في فقه التنظم الذاتي الافقي.3- تحويل وجهة النقاش وحصره في مجموعة من أساتذة القانون الدستوري الذين تحوّلوا إلى ما يُشبه “مجلس تشخيص مصلحة النظام” حيث يقع التداول في مسائل تخص التعديلات القانونية وغيرها أمام الكاميرا ومباشرة من قصر قرطاج.4- توظيف القضايا الحقيقية مثل استقلالية القضاء لصالح بناء صورة الرئيس الذي يريد قُضاء بصفة وامتيازات “أنبياء”، في محاولة للهيمنة على المرفق الوحيد الذي يستطيع بمقتضى ما له من سلطات أن يكون لسان دفاع على من هم ضد اجراء 25 جويلية 2021.
بهذا الشكل، يبدو وأن الانتقال الديمقراطي يترك مكانه لاستبداد يُبنى على مهل. رغم ذلك، لازالت الصورة لم تكتمل بعد، حيث أن إكراهات الواقع بتفاصيله الاقتصادية والاجتماعية قد تترك نُدُبات واضحة على جسد الاستبداد، مضافا إليها جيوبوليتيكا حارقة إقليميا ودوليا استثمرت بسخاء في الديمقراطية التونسية وربما وجدت في حدث 25 جويلية 2021 فرصة لتعديل الشرط الديمقراطي، ومن ثمة المرور نحو بدائل أخرى بعيدا على جزء كبير من النخبة السياسية الحالية بما فيهم رئيس الدولة.
محمد العربي العياري – باحث بمركز الدراسات المتوسطية والدولية, تونس