روسيا في مواجهة المأزق
ما هي تداعيات الحرب الروسية ـــ الاوكرانية التي بدت معالمها تتوضح؟ هل ستصبح حرب استنزاف طويلة الامد ام سيتم الاكتفاء بتجويع روسيا، وحصارها واغراقها بحروب داخلية متفرقة؟
كان لروسيا بقيادة القيصر الكسندر الاول دوراً بارزاً في الانتصار على فرنسا فيما عُرِف بالحروب النبليونية التي استمرت ٢٥ عاماً، انتهت أثر هزيمة نابليون المدوية في معركة واترلو (بلجيكا) في العام ١٨١٥، ثم انعقد مؤتمر فينا بين الاطراف الاوروبية ومن بينها روسيا والذي حرص قيصرها ان يكون قريباً لمكان انعقاد المؤتمر، هذا المؤتمر أعاد الاستقرار والتوازن لاوروبا وبين ولاياتها. وما يمكن للمرء تسجيله في هذا الاطار هو ان المؤتمرين لا سيما الدول المنتصرة روسيا وبريطانيا وبروسيا والنمسا، هو عدم إذلالهم للمهزوم اي فرنسا، على الرغم مما تضمنته معاهدة فيينا من وضع حد لها لمنعها من القيام بحروب مستقبلية، علماً انه تم توسيع اللجنة الرباعية لتصبح خماسية بإضافة فرنسا اليها.
في الحرب العالمية الاولى، التي حصلت بعد مائة عام من توقيع معاهدة فيينا، التي انتهت مفاعيلها بفعل التطورات والأحداث التاريخية التي شهدها القرن التاسع عشر، عاقب المنتصر في هذه الحرب المهزوم وحدد دوره، وهذا ما تضمنته مندرجات معاهدة فرساي والتي قرأها الألمان على انها ظالمة لهم مما أدى الى قيام الحرب التي بدت انه لا مفر منها، علماً ان روسيا كانت من الدول المنتصرة رغم الأداء السيء لقواتها العسكرية وللإضطرابات السياسية التي كانت تشهدها البلاد في تلك الفترة التي شهدت قيام الثورة البلشفية بقيادة لينين. كان لروسيا الدور البارز في الحرب العالمية الثانية الى جانب بريطانيا العظمى واميركا، وقد شهدت مدن طهران ويالطا وبوتسدام مؤتمرات انبثق عنها ما هو اكثر واكبر من معاقبة ومحاسبة المعتدي او المهزوم، فقد تم تأسيس نظام عالمي لإدارة شؤون الكوكب بأكمله، فصار هناك منظمة الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي، وصارت تتشكل تباعاً منظمات دولية قطاعية مختلفة، وانتظمت الصراعات الدولية المتفرقة ضمن هذا النسق، وأفل دور بريطانيا بعد عشر سنوات من الحرب الكبرى لتبقى اميركا وروسيا فقط، مع توسع مجلس الامن الى خمسة مندوبين دائمي العضوية.
بيد ان العالم انحكم لهذه الصيغة حتى العام ١٩٩٠ عندما انهار الاتحاد السوفياتي، مُبقياً اميركا وحيدة لتنفرد في زعامة الكون، لكن المفارقة هنا ان مؤسسات النظام العالمي التي تشكلت بفعل نتائج الحرب العالمية الثانية، بالتشارك بين عدة أطراف بقي كما هو دون تعديل، فبدت شكلية وتم استسهال اختراق قواعدها والاصول تباعاً، برز ذلك في الغزو الاميركي للعراق العام ٣..٢ وفي الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤، وغيرهما من الاحداث.
ما يمكن ملاحظته حول الوضع الروسي خلال تلك الحروب مقارنة مع وضعه في الحرب الاوكرانية الراهنة، هو ان الدول الكبرى كان هدفها على الدوام تطويق روسيا وضربها، فهي قلب العالم، ولا يمكن تفسير هدف الالمان من التوغل الى الداخل الروسي ابان الحربين الاولى والثانية سوى ضرب روسيا والغائها، وكذلك فعل نابليون في العام ١٨١٢ الذي وصل موسكو، ثم طارده القيصر الكسندر الاول الى باريس وحاصره في الشانزليزيه، الذي كان حقولاً، ليصيغ له دستوراً في الوقت الذي لم يكن عنده دستور في موسكو، كذلك فعل ستالين في الحرب العالمية الثانية الذي أصر ان يكون الجيش الاحمر الاول في دخوله برلين وليسيطر على نصف القارة الاوروبية، ثم ليتمدد النفوذ السوفياتي عبر الاحزاب الشيوعية وحركات التحرر الوطني العالمية الى كل مواقع الصراع على امتداد الكرة الارضية.
هذا الاستطراد يهدف للدعوة لرؤية فارق خطير وهو ان انحدار مستوى الاتحاد الروسي الى الهجوم على اوكرانيا؟ البلد الذي كان بالامس القريب في الحضن الروسي، من رؤية القيصر الكسندر الاول في قلب باريس يذل نابليون، الى القيصر الجديد الذي يقف عند اسوار عاصمة اوكرانيا كييف مكسوراً؟ يا له من مشهد مرعب ومخز في آن. لاول مرة على امتداد قرون روسيا بدون حلفاء.
السؤال الذي يخطر في البال هو ماذا كان يفعل النظام الجديد في روسيا بعد ثلاثون عاماً من سقوط النظام الشيوعي وانهيار الاتحاد السوفياتي، سوى انهم سرقوا ونهبوا خيرات ذلك البلد العظيم، وانشأوا حكماً مافيوياً عبث بالبلاد والعباد. ان الخطر الاساس الذي يهدد روسيا وشعبها هو من نظام بوتين الذي اغرق روسيا في حرب طويلة الامد معطياً الفرصة للطامعين بضربها، ثم ان هذا الانحدار بدور روسيا وقدرتها منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم حيث تميز شعبها على مواجهة الصعاب، فهذه البلاد اليوم أصيبت ببلاء قاتل يصعب على شعبها مواجهة المأزق الذي وضعها به النظام الحالي، فأين المفر؟
* ناشط ومحلل سياسي