الميكيافيلية وغيبوبة النظام العربي

الميكيافيلية وغيبوبة النظام العربي

علي العطار – كاتب لبناني

بعد فترة من توقيع “الاتفاق النووي” بين أميركا وإيران في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما صرح مسؤول ايراني، أن طهران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، ثم جاء الرئيس دونالد ترامب فألغاه، والآن مع الرئيس المتردد جو بايدن تعثرت المفاوضات في فيينا لإعادة إحيائه مجددا. وما زال البرنامج النووي الإيراني يشكل عنوانا عريضا لسياستها الخارجية، تعقد حوله مفاوضات، ويتمظهر كعقدة نفسية أكثر من عقدة نووية. هذا في الشكل، أما في المضمون فتحمل هذه المفاوضات المتعثرة برعاية أقطاب عالمية، مشروع إعادة رسم مناطق نفوذ قوى إقليمية رئيسية؛ إيران، تركيا، إسرائيل، التي تشكل مثلثًا يحوط المنطقة العربية، الممتدة من إيران شرقا إلى البحر المتوسط غربا، ومن تركيا شمالا إلى مصر جنوبا، بغياب قوى عربية مؤثرة، مصر، السعودية!        

 تطمح إيران أن تكون إحدى ركائز هذا المثلث الأساسية، وهي كذلك. وتحاول في المفاوضات انتزاع اعتراف دولي بها كشريك في رسم الخارطة الجيوسياسية الجديدة للمنطقة، وهي ليست كذلك. وتبرز حاجتها الشديدة لهذا الاعتراف، لأنه يمنحها إنجازا عظيما تنتظره دعايتها المتأهبة دائما لتسويقه انتصارا فريدا لسياستها الخارجية، وإذا لم ينجز يتم تسويقه انتصارا وصمودا لسياستها الداخلية.

 حصل الاتفاق أو لم يحصل سيكون بمثابة غطاء وتعويض لمواجهة ازمتها الاقتصادية التي تعاني ضغوطا كبيرة في التنمية المتعثرة بسبب العقوبات الاميركية! أكثر من ثلث الشعب يعيش تحت خط الفقر. وهم في الانتظار وقد يطول الانتظار الذي يحمل سؤالًا عن  جارتها الشرقية  باكستان. التي دخلت نادي الدول النووية سنة 1976 وما زال ناتجها القومي 263 مليار د.أ سنة 2020، ومتوسط دخل الفرد 1465 د.أ.. هل حققت  تنمية اقتصادية وبشرية وازدهارا من امتلاكها الطاقة والسلاح النووي؟          

تعاني الجمهورية الإسلامية الإيرانية من صعوبة الوصول إلى العملة الأجنبية. ناتجها القومي 191 مليار د.أ سنة 2020، ومتوسط دخل الفرد 2420 د.أ، وفقا لبيانات البنك الدولي. ولا يوجد في موازنتها للعام 2022 أية مؤشرات إلى تحول حقيقي يمكن أن يخرجها من أزمتها الاقتصادية الخانقة بسبب العقوبات المستمرة، لذلك لجأت إلى قاعدة “تعطيل” الانتظام العام في مناطق نفوذها وسيطرتها وحيث تمتد أذرعها، غير عابئة بالنتائج المترتبة على انهيار الأنساق الاجتماعية القائمة في هذه المجتمعات والبلدان. وتهديدها الدائم الذي تعتمده في مقارعة اخصامها  قائم على اذرع متعددة نجحت في نشرها واشرفت على نموها، ساعد هذه الاذرع على النمو والتمدد والانتشار أنظمة أكلها العفن والاهتراء والتخلف، وشجع طهران على تصدير تجربتها الفريدة والرائدة  في خلق ردائف في الكيان الواحد، حيث يصير الجسم برأسين.        

يجري تشليع وافتراس هذه المجتمعات التي لم تعد قائمة في “حضرة الغياب” الكبير لقوى عالمية. من سمات قادتها التردد، قلة الهيبة، والمراهقة السياسية، بعض هؤلاء القادة مصاب بفقدان الذاكرة والبعض يملك ذاكرة حادة، ويسيطر على بعضهم الاخر نزق الشباب وطيشهم، رغم أن رؤوس اشتعلت شيبا، وبلغوا من العمر عتيا. 

  فتركيا، ناتجها الوطني 719 مليار د.أ سنة 2020،  ومتوسط دخل الفرد 8550  د.أ اتجهت شرقا بناء على سياسة الرئيس الحالي؛ “أن نكون على رأس الشرق خير من أن نكون في مؤخرة الغرب”. ووجدت في سوريا والعراق أرضا سائبة وخصبة فتدخلت بهلالها، علها ترد الاعتبار إلى كرامتها المهدورة بعد رفض طلبها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وفرصة سانحة لتعزيز قوتها في مواجهة المسألة الكردية، وبهذه السياسة يكون “الطيب أردوغان” قد انقلب على مقولة مؤسس الجمهورية  الحديثة “أتاتورك” بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطورية العثمانية.        

 خلال زيارته الأخيرة إلى السعودية كان لافتا  تعليق “الطيب أردوغان” على رقم غرفته ـ 1453ـ  (وهو تاريخ سقوط القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح)، في الفندق الذي حل ضيفا فيه قال: (…) آمل أن نتمكن من متابعة طريق أجدادنا… وهذا الطريق هو مصدر إلهامنا”.        

انتهت عمليا اتفاقية ـ سايكس بيكوـ السرية التي وقعتها بريطانيا وفرنسا، سنة 1916، التي نصت على تقاسم النفوذ في منطقة غرب آسيا بينهما، والتي كشفتها ثورة البلاشفة في أكتوبر1917. وبموازاة “مراسلات” ماكماهون،  والثورة العربية “البدوية” التي قادها الشريف حسين، قدمت بريطانيا وعدا لليهود بإقامة دولة لهم في فلسطين، سقطت مفاعيل هذه الاتفاقية، وبقيت مفاعيل وعد بلفور.      

 وبعد أكثر من قرن على هذا الوعد، وقبل انتهاء ولايته بأسابيع قليلة، قدم الرئيس “ترامب” هدية ثمينة للكيان الإسرائيلي، اتفاقية “ابراهيم” بين إسرائيل وأربع دول عربية، وإذا أضيف إليها الاتفاقيات الموقعة سابقا، يصبح نصف الجامعة العربية موقعا، ويمسى التطبيع أمرا واقعا، بعدما كان سابقا من المحرمات مع “لاءات الخرطوم” الشهيرة التي ذهبت مع الريح، ورغم امتلاكه  200 رأسا نوويا ما زال هذا الكيان المهدد بالزوال ـ خلال دقائق ـ  يحقق ناتج محلي تخطى 400 مليار د.أ سنة 2020، ومتوسط دخل الفرد 44200 د.أ، وهو مستمر ويبحث في إنشاء علاقات استراتيجية مع دول وقع معها اتفاقات، ويعمل على تطويرها، فهل ينتظر الموقعون والرافضون الاحتفال سوية في “وعد ” جديد قبل أن يزول “الكيان” من الوجود؟ 

ستبقى المنطقة الواقعة ضمن مثلث الرحمات المذكور مستباحة، يحاول كل ضلع منها توسيع نطاق نفوذه، والسيطرة  بشتى الوسائل، وتضييق مساحة الخصم، مع الالتزام والحرص على تفهم قواعد الاشتباك الناعم وكل طرف يتفنن في السير على حافة الهاوية، ولا يخرج عن السياق الجغرافي الذي انوجد فيه، مستنسخا الطريقة الأميركية في مواجهة روسيا وغزوها الأخير لأوكرانيا، القاضية  بمقاتلة روسيا حتى آخر أوكراني، وقد يكون الرئيس الإيراني “أحمدي نجاد” أسبق من أميركا في اعتماد  هذه السياسة بوضوح، عندما صرح خلال زيارته جنوب لبنان، بعد أن حمد الله قال: “نحن على حدود إسرائيل.. لكن إسرائيل ليست على حدودنا”.     

السياسة المكيافيلية الجديدة المعتمدة من أطراف دولية وإقليمية مستمرة طالما بقيت المنطقة في حالة انشطارية وانتظارية، وقواها الفاعلة غير فعالة. 

هذه القوى تملك إمكانات مؤثرة وطاقات حيوية لا يمكن تجاهلها، ولزيادة تشظيها تطوق بأزمات مثل “سد النهضة” الذي يمس الامن الحيوي لجمهورية مصر العربية، التي تجاوز ناتجها الوطني 370 مليار د.أ سنة 2020، ومتوسط دخل الفرد 3570 د.أ، و”حرب اليمن” التي تستنزف المملكة العربية السعودية، ناتجها الوطني 700 مليار د.أ سنة 2020، ومتوسط دخل الفرد 20150 د.أ، وهي من دول العشرين عالميا في الاقتصاد. وبعض القوى المغيبة أو في غيبوبة بعضها يتعلق بهذا أو يراهن على ذاك. يبقى توحيد الرؤية بين مصر والسعودية طريق الخلاص من الحالة الانشطارية، والقمين  بالحد من الخسائر التي تدفعها شعوب المنطقة مدار النزاع.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة