بوتين يكشف خطته القتالية: “العملية الخاصة” تحولت إلى واقع

بوتين يكشف خطته القتالية: “العملية الخاصة” تحولت إلى واقع

د. زياد منصور

شكل خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الجلسة العامة لمنتدى سانت بطرسبرغ، حدثا لا يقل أهمية عن تلك المواقف التي بدأ بإطلاقها منذ بدء العملية العسكرية لتحرير الدونباس، بحيث قدم العرض الأكثر شمولاً لوجهات نظره بشأن الوضع في البلاد والعالم، منذ بدء هذه العملية في أوكرانيا.

يُسند إلى هذه العملية نفسها من وجهة نظر رئيس الاتحاد الروسي دور مهم، ولكن لا تحتل الدور المهيمن لرسم السياسة الروسية برمتها. رغم ذلك فالعالم لن يكون هو نفسه كما هو عليه الحال اليوم. لقد حدثت تغييرات (أو بالأحرى، بدأت هذه التغييرات) في هذا العالم، ولكن وصف ما يجري مجرد ثورة، فهذا يبدو باهتاً للغاية وغير معبر، إذ أنه بعد 24 شباط- فبراير، بدت صياغة هذا النوع من الأسئلة أمرا بديهياً.

ولكن، رغم ذلك حتى اليوم، يمكن خفض هذه البديهية إلى مرتبة النظرية، فهي تخضع إلى إختبار قوي من خلال مسار الأحداث. إن الإشارة السياسية الكبيرة في الخطاب لموضوع الناتج المحلي الإجمالي كان في الأساس إشارة سياسية كبيرة امتدت عبر الزمن: فلنقلل من العواطف والتحدث عن اللحظة الثورية، ونحتاج على جو عملي أكثر، وإحساس بالحياة اليومية.

بطبيعة الحال، لم يحاول بوتين على الإطلاق التظاهر بأن العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا غير موجودة. في سياق الإجابة على الأسئلة بعد خطابه، تحدث عنها صاحب الكرملين كثيرًا وبالتفصيل. كان معنى ذلك هو الإشارة إلى أن الدولة الروسية قادرة على العمل بثبات في مجالين مترابطين بشكل وثيق، ولكن ليسا متداخلين الاقتصاد ومصالح الناس والأعمال العسكرية.

من ناحية، ينفذ الجيش الروسي بهدوء ودون تسرع المهام القتالية كجزء من عملية خاصة. في مجال آخر، تحل الحكومة الجماعية الروسية (تكافل الحكومة نفسها، والأعمال التجارية الكبيرة، والعلوم، والصناعة، والمجمع الصناعي العسكري، وما إلى ذلك) المهام الروتينية لإعادة هيكلة الاقتصاد.

لقد كانت حساباتهم واضحة: سحق الاقتصاد الروسي بوقاحة والانقضاض عليه بهدف تدمير سلاسل الأعمال والتوريد، والسحب القسري للشركات الغربية من السوق الروسية، وتجميد الأصول المحلية، لإلحاق الضرر بالصناعة والتمويل ومستوى معيشة الناس. فالتوقعات القاتمة بشأن آفاق الاقتصاد الروسي، والتي جرى الحديث عنها في بداية الربيع، لم تتحقق.

في الوقت نفسه، من الواضح سبب تضخيم هذه الحملة الدعائية، حيث سيقت الشعوذات حول وصول سعر الدولار إلى 200 روبل، وعن انهيار الاقتصاد ككل -كل هذا كان ولا يزال أداة حرب المعلومات، عامل التأثير النفسي على المجتمع الروسي، على دوائر الأعمال المحلية. هنا رد بوتين على التأثير النفسي من الغرب بتأثيره النفسي المضاد. تأثير مصمم لغرس الثقة في المجتمع الروسي: في العالم، بالطبع، تحدث الآن كوارث غير مسبوقة. لكن لا داعي للذعر. كل شيء يسير بالطريقة التي يجب أن يسير عليها.

تتكون حرب المعلومات بشكل أساسي من صراع الأفكار المختلفة حول الواقع. وجهة نظر غربية: روسيا خرقت القواعدوكعقاب لها سيتم تطويقها ومحاصرتها كي تتعفن وتنهار من الداخل.

فكرة بوتين في الخطاب تقول: أن الغرب نفسه سوف يتعفن وينهار، الذي صدّق جديا أن دوره هو أن يكون خليفة الله على الأرض.

على سبيل المثال، قال بوتين عن الناتج المحلي الإجمالي كل هذا يؤدي إلى تفاقم المشاكل العميقة في المجتمعات الغربية. نعم، بالطبع، لدينا ما يكفينا من المشاكل الخاصة بنا، لكن يجب أن أتحدث عن هذا الآن، لأنهم يشيرون بأصابعهم إلينا طوال الوقت، ولديهم هم أنفسهم ما يكفي من المشاكل..كل ما يجري هو محاولة لزرع عبوة جيدة في لعبة سيئة، وكل الحديث عن التكاليف المقبولة المزعومة أو الخسائر باسم الوحدة الزائفة لا يمكن أن تخفي الشيء الرئيسي: فقد الاتحاد الأوروبي أخيرًا سيادته السياسية، ونخبه البيروقراطية ترقص على موسيقى أخرى. لحن آخر، ينفذون ويقبلون ل كل ما يقال لهم من فوق، مما يلحق أضرارا جسيمة بسكانهم واقتصادهم وأعمالهم الخاصة.

في مداخلة رئيس روسيا هناك صدق. بوتين لا يتظاهر ولا يلعب دورًا. يبدو أنه قد غاب عنه، أنه تم فصل روسيا عن الاقتصاد العالمي والآن هناك أزمة قوية في العالم. في عالم بوتين الذي رآه، فإن التضخم في أسعار السلع والمواد الخام، قد حدث قبل أحداث هذا العام بوقت طويل. لقد دفع العالم باستمرار إلى مثل هذا الوضع بسنوات عديدة، بسبب سياسات الاقتصاد الكلي غير المسؤولة لبلدان ما يسمى بـ “السبع الكبار”، بما في ذلك الانبعاثات غير المنضبطة وتراكم الديون غير المضمونة.

علاوة على ذلك، تسارعت هذه العمليات وتكثفت مع ظهور جائحة الفيروس التاجي مرة أخرى في عام 2020، عندما انخفض العرض والطلب على السلع والخدمات بشكل كبير على مستوى العالم. السؤال هو: ما علاقة العملية العسكرية في الدونباس بها؟ لا علاقة لها به على الاطلاق، باختصار، روسيا لا تخلق مشاكل العالم، لكنها تحلها. وفي روسيا نفسها، سيكون كل شيء على أعلى مستوى -هكذا يبدو الوضع من أبراج الكرملين المرتفعة. لقد انتهى عصر النظام العالمي احادي القطب، والخوف من المنافسة دفع بالغرب إلى اتخاذ تدابير وإجراءات من خلال فرض عقوبات طائشة ومجنونة ضد موسكو. هنا وضع بوتين الأسس التي يراها لتحقيق الاستقلال والسيادة الشاملتين، وهي بمثابة خطة ذات أبعاد ومبادئ حددها بالتالي:

ــ الانفتاح: إن الدول ذات السيادة الحقيقية هي تلك التي تبني سياستها على الشراكة المتبادلة والمتساوية، كي تس هم في التطور الكوني. فروسيا وبغض النظر عن كون شركائنا أو لنقل أصدقاءنا يحلمون بذلك – فإنها لن تسبر في الطريق نحو عزل نفسها والاكتفاء الذاتي.

ــ المبدأ الثاني لتنميتنا على المدى الطويل هو الاعتماد على حريات رجال الاعمال. وقال رئيس الدولة إن كل مبادرة خاصة تهدف إلى مصلحة روسيا يجب أن تحصل على أقصى قدر من الدعم والمساحة للتنفيذ. ووعد بمزيد من التخفيف من العبء الإداري على الشركات، مشيرا إلى نتائج إيجابية بعد تقليص عدد عمليات التفتيش.

ــ الركيزة التالية لتنمية روسيا هي سياسة اقتصاد كلي مسؤولة ومتوازنة. وقال الرئيس هدفنا هو التنمية المطردة للاقتصاد لسنوات قادمة، والحد من العبء التضخمي على المواطنين والشركات، وتحقيق معدل تضخم وسطي بنسبة 4 ٪ على المدى المتوسط والطويل.

ــ وصف العدالة الاجتماعية بأنها المبدأ الرابع للتنمية. وبرأيه فإن ذلك يشمل الدعم المستهدف للموظفين، والمتقاعدين والأسر التي لديها أطفال، وكذلك من هم في وضع معيشي صعب، وزيادة في عدد الوظائف.

ــ المبدأ الخامس، الذي تبني روسيا على أساسه سياستها الاقتصادية، هو تطوير البنية التحتية ذات الأولوية. في العام المقبل، ستبدأ خطة واسعة النطاق لبناء وإصلاح الشبكة الأساسية للطرق.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي