ما هي الأهداف الخفية لمحاكمة “المرتزقة” في دونيتسك؟

ما هي الأهداف الخفية لمحاكمة “المرتزقة” في دونيتسك؟

د. زياد منصور

بات معروفاً أن المحكمة العليا في جمهورية دونيتسك الشعبية حكمت على اثنين من المواطنين البريطانيين، وهما أيدن أسلين وشون بينر، والمواطن المغربي إبراهيم سعدون، الذين قاتلوا إلى جانب المسلحين الأوكرانيين، بعقوبة الإعدام.
وحسب وسائل الاعلام الموالية لروسيا، ووفقا لاعترافات نقلت عنه، لم يكن يُعرف أي شيء عن أنشطة إبراهيم سعدون على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا عن خبرته القتالية. كما أوردت بعض وسائل الاعلام الروسية عن المحامي الروسي إيغور فاجين الذي يعمل في هذه القضية، أن إبراهيم وصل إلى أوكرانيا في عام 2019، بعد فشله في دخول الجامعة والعثور على وظيفة في وطنه. وهو كان وصل إلى أوكرانيا عبوراً عبر منطقة بولتافا، لينتهي به المطاف في كييف، حيث حاول لفترة طويلة تعلم اللغة الروسية ودخول معهد كييف للفنون التطبيقية. وبالفعل تمكن من أن يصبح طالباً في الجامعة، لكن حماسه العلمي لم يدم طويلاً: إذ ترك الدراسة، ليوقع في عام 2021 عقدًا لمدة ثلاث سنوات مع القوات المسلحة الأوكرانية، وهناك حصل إبراهيم على رتبة مقاتل بحار. في البداية تم تعيينه كسائق لمركبة مدفعية صاروخية، لكن البريطاني أسلين ساعده في أن يصبح في عداد طاقم مدفعية الهاون في الكتيبة الأولى.
على مدى ثلاثة أشهر، أكمل سعدون دورة مقاتل، وبعد ذلك تم نقله إلى منطقة دونيتسك. في نهاية شباط- فبراير، تم نقل الوحدة التي خدم فيها المغربي إلى مصنع إيليتش في ماريوبول، حيث كان يحرس منطقة المصنع ويراقب حركة العدو. وفي حديث مع محاميه، أشار إبراهيم إلى أنه يفهم معنى إبرام عقد مع الجيش الأوكراني، ذلك أنه – كما قال- “أراد اكتساب خبرة قتالية…”.
في 8 حزيران- يونيو، أقر المتهمون بالذنب بموجب المادة 232 من القانون الجنائي لجمهورية دونيتسك الشعبية “التدريب من أجل القيام بأنشطة إرهابية”. كما اعترف بينر وإبراهيم بالذنب في الأعمال التي تهدف إلى الاستيلاء على السلطة بالقوة.
وبغض النظر عن الاعترافات ومدى صحتها، فإن القضية باتت تحمل أبعاداً كبيرة، وأهمها استغلال هذه المحاكمات لتحقيق جملة من الأهداف.
تعتقد أوساط متابعة للقضية أنه يمكن للمملكة المتحدة والمملكة المغربية أن تحاولا فقط التخفيف من مصير “المرتزقة” من خلال القنوات الدبلوماسية، ولكن بالنسبة للسلطة القضائية في جمهورية دونيتسك الشعبية، التي تشن الآن عمليًا “حرب تحرير” لحماية مواطنيها، فإن المرتزقة ليسوا عسكريين في القوات المسلحة الأوكرانية، لذلك إذا تحدثنا عن اتفاقية جنيف لمعاملة أسرى الحرب، فإن هذه الوثيقة لا تنطبق على المرتزقة، والتشريع الداخلي للجمهورية يعطي الحق في تطبيق عقوبة الإعدام.
ذلك أنه من وجهة نظر قانونية، فإن المدانين هم مرتزقة أجانب يشنون حربًا ضد جمهورية دونيتسك، وإذا وقعوا في الأسر، فسيتم تقديمهم للعدالة، وهذا من صلاحيات جمهورية دونيتسك المعترف بها من قبل روسيا.
يشير البعض الآخر أنه يمكن للمملكة المتحدة وحكومة المغرب استخدام قنواتهما الدبلوماسية مع موسكو من أجل التأثير على مصير مواطنيهم، رغم النفوذ الضئيل لبريطانيا المتهمة بالتدخل السافر وموقفها المتطرف تجاه الكرملين، وما يجري في أوكرانيا، على عكس المملكة المغربية. على الرغم أنه من الناحية الإنسانية فإن التعامل عموماً مع حكومة دونيتسك الشعبية لا يعني اعتراف السلطات البريطانية بسيادة الجمهورية. وهذا ما يجب أن تقدم عليه أية دولة في ظل الوضع الحالي، رغم العقوبات وعدم الاعتراف بهاتين الجمهوريتين.

هل هي قضية للمساومة!!
في السابق، طلب المرتزقة البريطانيون بإجراء عملية تبادل بالسياسي الأوكراني فيكتور ميدفيدشوك، لكن لندن لم تشارك بنشاط في مفاوضات التبادل. الآن بعد صدور الحكم، أصبح النقاش حول إمكانية التبادل موضع تساؤل، على الرغم من أن المرتزقة المحكوم عليهم في دونيتسك من الصعب أن يكونوا ضمن أية صفقة أو ضمن أية عملية التفاوض. وهذا هو موقف الأطراف العلني.
شيء آخر، هو أن هذا النوع من القرارات أي تنفيذ [حكم الإعدام] هو دائمًا عملية قد تطول. يجب التذكير أن القرار هو المحكمة الابتدائية الآن، كما أن النظام القانوني ينص على إمكانية استئناف القرار. فللمتهمين محامون سيعرضون على ما يبدو، تقديم مناشدات إلى السلطات العليا بحيث يمكن استبدال العقوبة القاسية بتدبير أقل قسوة، على أنه يمكن أن تحصل إمكانية العفو عن الأجانب، ولكن من خلال مرسوم يصدر من قبل رئيس الدولة التي مثلوا فيها أمام المحكمة.
“يفترض النظام تخفيف العقوبة بقرار من رأس الدولة. يتمتع رؤساء الدول بمجموعة معينة من السلطات التي يمكنهم من خلالها السماح بتخفيف العقوبة. في هذه الحالة، يمكن لهؤلاء الناس أن يأملوا في تحول أكثر إيجابية في مصيرهم.
وفقًا لدستور جمهورية دونيتسك الشعبية، يحق للمدان تقديم التماس بالعفو، والذي ينظر فيه رئيس الجمهورية، أي دينيس بوشلين. وهنا يمكن استبدال عقوبة الإعدام بالسجن المؤبد، أو السجن لمدة 25 عامًا.

حتى الآن فإن البروباغندا الرسمية الروسية تلفت على أنه وفقاً للتشريع الجنائي في دونيتسك، لا يمكن أن تخيل على أي أسس قانونية يمكن أن يستند لاستئناف. فهذه جريمة خطيرة، ولا يمكن تفهم أية أسباب لتخفيف العقوبة.
لعل [عقوبة الإعدام] تبدو مرعبة ومخيفة لسكان الدول الأخرى. لكن في جمهورية دونيتسك الشعبية التي تشهد يوميا جرائم الحرب كل يوم، إذ هناك قتلى في كل عائلة. فليس من سبب لتخفيف العقوبة. وتعمل وسائل الإعلام على القول إنه يجب إدانة النازية بصوت عالٍ وعلناً.
في كل الأحوال، فإن المملكة المتحدة لن تقدم طلبًا مباشرًا إلى مجلس النواب الشعب في دونيتسك فيما يتعلق بمصير المحكوم عليهم، لأن هذا سيعني الاعتراف بالجمهورية. ووفقًا للبعض، فإن السيناريو الأكثر واقعية هو إنشاء مجموعة عمل بمشاركة الولايات المتحدة.

لماذا هذه العقوبة القاسية؟
كل من تابع مراحل هذه القضية لاحظ كيف تم فتح قضية جنائية بسرعة، وكيف أن التحقيق السابق للمحاكمة قد تم في بوقت قياسي، نظرًا لخطورة التهم وشدة العقوبة. كانت المحكمة نفسها سريعة وسريعة جدا، ولم يتم عقد سوى بضع جلسات. نتيجة لذلك، اعترف المتهمون جزئياً بالذنب.
لذا، يسأل الجميع بعض الأسئلة الأساسية: لماذا احتاج مجلس النواب الشعب في دونيتسك إلى هذه الدعوى؟ لماذا تتم محاكمة أفراد غير مهمين، على الرغم من وجود شخصيات أكثر أهمية في الأسر لدى جمهورية دونيتسك الشعبية، من بينهم قائد فوج آزوف في ماريوبول دينيس بروكوبينكو (“الفجل”)، ونائبه سفياتوسلاف بالامار (“كالينا”)، أو قادة اللواء 36 مشاة البحرية – العقيد فلاديمير بارانيوك والرائد سيرجي فولينسكي (“فولين”)؟
من الواضح أنه على الرغم من أن الثلاثة حكم عليهم بالإعدام، فلن ينفذ هذا الحكم، إذ حتى عام 2025، تم فرض حظر على تنفيذ أحكام الإعدام في جمهورية دونيتسك. ولكن لا يعني الأمر التراجع عن هذا القرار إذ استدعت الضرورة السياسية ذلك.
لقد أوردت بعض وسائل الاعلام أنه في حالة صدور حكم بالإعدام على رعايا المملكة البريطانية، فإن البريطانيين سيستأنفون، أي أن الاستئناف سيكون في الهيئات القضائية في جمهورية دونيتسك الشعبية.

ماذا يعني هذا؟
ها يعني اعتراف فعلي من قبل بريطانيا، الحليف الرئيسي لأوكرانيا في أوروبا بجمهورية دونيتسك الشعبية. في هذه الحالة هذا يعني أن البريطانيين سيقومون باللجوء إلى خدمات محامين وإرسال ممثليهم على دونيتسك لبناء الدفوع القانونية اللازمة. علاوة على ذلك، سيعملون في المجال القانوني لجمهورية دونيتسك، وهذا يعني أنهم من خلال القيام بذلك سوف يعترفون بالجمهورية. هذا هو انتصار لدونيتسك وهو اعتراف فعلي، وهو نصر لجمهورية دونيتسك في أوروبا. وهذا يستحق الكثير.
لقد حاولت السلطات الأوكرانية حماية المقاتلين الأجانب الذين استأجرتهم وإبعادهم عن المساءلة القانونية، مشيرة إلى أنهم أفراد عسكريون تابعون للقوات المسلحة لأوكرانيا ويجب أن تنطبق عليهم اتفاقية جنيف. دون ذكر أن الثلاثة (مثل معظم المرتزقة الأجانب الآخرين الذين يقاتلون حاليًا في أوكرانيا) لا يحملون الجنسية الأوكرانية.
لا شك أن الارتزاق في حد ذاته جريمة دولية. من الواضح أن الاتهام يسترشد بالوثائق الدولية ذات الصلة – اتفاقيتا جنيف الثالثة والرابعة لعامي 1929 و1949، والمادة 47 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977. ولكن ما هي الأهداف من كل ما يجري؟

أولاً، إنها إشارة لجميع مجرمي الحرب والمرتزقة، بغض النظر عما إذا كانوا في الأسر أو يخططون فقط للوصول إلى هناك، أن سلطات التحقيق في حالة تأهب ولن يفلت أحد من العقاب. هنا، بالمناسبة، كانت عمليات إيداع القضايا الجنائية غير الواعدة التي فتحتها لجنة التحقيق الروسية لسنوات عديدة (والتي تم انتقادها بسببها) مفيدة …
اليوم سيتعين على الكثيرين التفكير بجدية. هذا ينطبق بشكل خاص على المتخصصين العسكريين الأجانب الموجودين في القوات المسلحة لأوكرانيا وفي وضعيات مختلفة. فلأنك اليوم متطوع أجنبي في أوكرانيا تقوم ببساطة بتعليم الأفراد العسكريين الأوكرانيين كيفية التعامل مع الأسلحة، وستجد نفسك غدًا في قفص الاتهام. وستفكر – ربما كان ينبغي تدريبهم خارج أوكرانيا.

ثانيًا، هذه إشارة إلى جميع سكان الأراضي المحررة والتي لا تزال تحت سيطرة كييف – أن الأمور جدية، وسيتم القبض على الجميع. هنا بالمناسبة، اعترف أناتولي بيريتس، جندي من اللواء 36 مشاة البحرية للقوات المسلحة الأوكرانية، في القضية الجنائية المتعلقة بإعدام مدنيين في ماريوبول.

ثالثًا، هذه إشارة للجميع: تحاول سلطات الجمهوريات إثبات أن دولًا ثالثة تشارك فعليًا في حرب بالوكالة على أراضي أوكرانيا.
على سبيل المثال، بريطانيا العظمى، التي من ناحية، لا تعترف بمواطنيها كمرتزقة (أي كي لا يبدو أنهم يتصرفون بموافقة الحكومة البريطانية)، ومن ناحية أخرى تتدخل لحمايتهم.

رابعًا، وعد نائب رئيس الوزراء ورئيس وزارة العدل البريطانية دومينيك راب بأن وزارة الخارجية في البلاد ستستأنف الحكم إذا حكم على المتهمين بالإعدام.
لكن من أجل هذا الشيء، ولاستئناف الحكم، يجب على وزارة خارجية صاحبة الجلالة التقدم بطلب إلى المحكمة العليا في جمهورية دونيتسك. ولهذا من الضروري الاعتراف بالدولة التي تعمل فيها هذه المحكمة. بخلاف ذلك، كيف يمكن المشاركة في عملية المحاكمة؟
من الواضح أن لا أحد سيفعل أي شيء من هذا القبيل. في الواقع، الاستئناف اعتراف بوجود دولة غير معترف بها.

أخيرا، فإن الصورة المرسومة مثيرة للاهتمام ومتعددة الأوجه. واضح أن المكون السياسي في هذه الحالة هو أن كل شيء لا ينتهي بحكم، بل يبدأ به. ولننتظر تصرفات الحكومتين المغربية والبريطانية.
ولننتظر أكثر كيف ستتصرف حكومة الولايات المتحدة تجاه مواطنيها ألكسندر دريوكي، واندي وين، وربما هناك أكثر من حالة..

Visited 5 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي