الشهيد المهدي بن بركة… توهج الفكر وحيوية الممارسة

الشهيد المهدي بن بركة… توهج الفكر وحيوية الممارسة

عبد الإله إصباح

كلما حل شهر أكتوبر وإلا حل في الأفق طيف الشهيد المهدي بن بركة، ليذكر القتلة بجريمتهم السياسية التي تستعصي على التقادم والنسيان. لقد كان اختطافه واغتياله اغتيالا لفكر متوهج ولمشروع سياسي يتوخى القطع مع الاستبداد والحكم الفردي المطلق، هو الذي كان يرى في هذا النمط من الحكم تجسيدا لإرادة الاستعمار الجديد  في بسط هيمنته على الشعوب ونهب ثرواتها.

أدرك بوعيه وحنكته السياسية، أن اليسار لا يمكن ترسيخه كمبادئ ورؤية سياسية في المجتمعات الغارقة في قبضة التبعية إلا في إطار نضال أممي لجميع قوى التحرر الوطني ضد الهيمنة الإمبريالية وضد وكلائها من الأنظمة الرجعية في العالم كله. وقد سعى إلى تجسيد هذه الرؤية من خلال هيكل تنظيمي قادر على تنسيق نضالها السياسي على مستوى جميع الدول والقارات. ولذلك كانت مبادرته ودوره الرائد في التهييء لمؤتمر القارات الثلاث الذي حال اختطافه واغتياله دون حضور اشغاله.

ويمكن القول إن الشهيد المهدي بن بركة برؤيته السياسية المتمثلة في “الاختيار الثوري”، قد قام بقطيعة مع نهج وفكر الحركة الوطنية التي حددت سقفا لفعلها السياسي، فقيدت نفسها باستحالة التخلي عن التوافق مع الملكية في كل الأحول والظروف. ولذلك كانت لا ترفع من المطالب إلا تلك التي تتأكد أنها لا تتجاوز ذلك السقف وتندرج ضمن إطار الولاء للنظام والخضوع التام له.

وفي إطار هذه القطيعة مع فكر الحركة الوطنية، انتقد أداءها السياسي اثناء مفاوضات الاستقلال، إذ حصرت مضمون هذا الاستقلال في عودة محمد الخامس دون أن تلتفت إلى ما هو أهم، والمتمثل في أسس النظام السياسي الذي يضمن التعبير الحر عن الإرادة والشعبية ولا يمارس عليها أي وصاية أو تهميش.

لقد كان الشهيد مدركا لمعيقات الفعل السياسي القادر على تجاوز الوضع القائم أنداك، وهي معيقات مرتبطة قبل كل شيء بالغياب التام للديمقراطية ،أي مرتبطة بما كان يطلق عليه “الحكم الفردي المطلق” بما هو حكم قائم على الاستبداد واحتكار السلطة والثروة. هذا التوصيف للنظام ارتبط لديه بضرروة الارتكاز على الوضوح في الممارسة السياسية وفي إنتاج الخطاب السياسي، لأن غياب هذا الوضوح كان من أهم نواقص وعيوب الأداء السياسي للحركة الوطنية بعد الاستقلال مباشرة. وانطلاقا من ذلك كان للمسألة الدستورية موقعا مركزيا في البديل الذي بنى مرتكزاته في اختياره الثوري، لأن إغفالها كان من ضمن الأخطاء القاتلة التي جعلت الحكم ينجح في خطته للاستفراد بالسلطة، وجعلت حكومة عبد الله ابراهيم عاجزة تماما عن تنفيد برنامجها لأنها لم تكن تملك من وسائل الحكم ما يساعدها على ذلك، وبعبارة أوضح لم تكن تملك السلطة الحقيقية التي بقيت محتكرة بيد النظام. ومن ثم اعتبر الشهيد أن أي تفاوض مع النظام لا يركز بوضوح على صلاحيات حقيقية للحكومة تجعلها تمارس السلطة فعليا، هو تفاوض يسقط مجددا في نفس الأخطاء القاتلة، ويجعل أي دستور لا تتضمن بنوده تنصيصا صريحا على هذه الصلاحيات دستورا يكرس الاستبداد ولا يعطي أي اعتبار للإرادة الشعبية.

ولعل أهم ما كان يميز الشهيد المهدي، هو جمعه بين كونه قائدا سياسيا على المستوى الوطني، وزعيما بارزا من زعماء حركة التحرر الوطني، فكان نضاله ضد الحكم الرجعي وفق تعبيره، لا ينفصل عن نضاله ضد الإمبريالية والصهيونية، اعتبارا للتحالف الاستراتيجي لهذا الثلاثي على مستوى العالم كله. وقد انتبه مبكرا للخطر الصهيوني وحذر من تزايد تغلغله في القارة الإفريقية، لما يحمله هذا التغلغل من مخاطر تهدد استقلال شعوب افريقيا واستقرارها، وتحكم عليها بالتبعية لهذا الكيان الاستعماري والعنصري. ولا غرابة في أن هذا الكيان كان له دور اساسي في تدبير وتخطيط اختطافه واغتياله لأنه أراد بذلك أن يزيح خطرا يهدد مشاريعه التوسعية في الوطن العربي وقارة افريقيا. وكان حدس الشهيد صائبا تدعمه التطورات اللاحقة والراهنة لمجريات مسلسل التطبيع مع مجموعة من الدول الإفريقية والعربية ،ومنها المغرب الذي تمادى في هذا التطبيع خاضعا ومستسلما للمخططات الامبريالية والصهيونية، دون اي اعتبار لعدالة القضية الفلسطينية ولمعاناة الشعب الفلسطيني من جراء الممارسات الوحشية للكيان الصهيوني وجرائمه المتواصلة.

ويكاد الشهيد المهدي بن بركة أن يتفرد بين القادة السياسيين المغاربة بهذه الازدواجية المميزة لنضاله على الصعيدين الوطني والأممي، لأنه كان مدركا لجدل الداخل والخارج في تحديد مصير أي نضال يستهدف القضاء على الاستبداد والتحرر من التبعية وقبضة الاستعمار الجديد، ولذلك كان لشخصيته بعدين، بعد وطني وبعد عالمي على غرار ماوتسي تونغ وتشي غيفارا وغيرهما من زعماء حركات التحرر الوطني.

كما انفرد بين الزعماء السياسيين المغاربة بأنه الوحيد الذي خلف وثيقة سياسية بقيمة وأهمية “الاختيار الثوري” . صحيح أن بعضهم خلف مذكرات أو جمع حوارات له في كتاب، غير أن كل ذلك لا يرقى إلى البعد المرجعي والتاريخي الذي يمثله “اختياره الثوري” ولا إلى شهرته ضمن الأدبيات الثورية المغربية والعربية.

إن التوجه السياسي للشهيد المهدي من خلال هذه الوثيقة الهامة، توجه يقطع مع الانتهازية والغموض والتذبذب، لأنه يشير بوضوح لطبيعة الحل السياسي للوضع المأزوم، حل يرتكز على تغيير جذري للبنى السياسية القائمة، ويؤدي إلى تحقيق ثورة حقيقية تنقل الاوضاع جذريا من الاستبداد إلى الديمقراطية ومن التخلف إلى التقدم ، ومن التبعية إلى الاستقلال التام.

وبهذا النهج السياسي، استطاع أن يرسخ صورته كزعيم حقيقي لليسار على المستويين الوطني والعالمي، وقد ضاعف اختطافه من ترسيخ هذه الصورة، وترسيخ قيمته كشهيد من شهداء حركة التحرر. وإذا استطاع القتلة أن يغيبوه جسديا، فإنهم عجزوا عن تغييبه كفكر ومشروع وقضية.

Visited 10 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة