لبنان: تطيير النصاب والهرطقة الدستورية
د.وفيق ريحان
نصت الفقرة الثانية من المادة 49 من الدستور اللبناني على ما يلي: “ينتخب رئيس الجمهورية بالإقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي (أي نصاب86 وأغلبية مطلقة 65 صوتا”) كما نصت المادة 73 من الدستور على المهلة الدستورية التي ينبغي خلالها إنتخاب خلف لرئيس الجمهورية لأي سبب كان، وهي محددة بشهرين على الأكثر قبل إنتهاء ولاية الرئيس الحالي، وأنه في حال لم يتوصل مجلس النواب الى إنتخاب رئيس جديد للجمهورية حتى ما قبل إنتهاء ولايته بعشرة أيام، فعلى هذا المجلس أن يجتمع حكما” في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس، وأنه عندما يلتئم المجلس النيابي لانتخاب الرئيس، فيعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية، ويترتب على ذلك انتخاب رئيس للجمهورية دون مناقشة أي عمل آخر (المادة 75 من الدستور). ويبدو من خلال النصوص الدستورية الآنفة الذكر، أن المشترع عندما يحدد مهلة الشهرين لانتخاب رئيس للجمهورية، وجعل الأيام العشرة الأخيرة حاسمة في عملية قيام المجلس النيابي بواجبه الدستوري، كي لا تطول مدة المراوحة، وتجنب الوقوع في الفراغ الرئاسي بما له من إنعكاسات سلبية على النظام السياسي والمجتمع اللبناني سياسيا” واقتصاديا” واجتماعيا” وأمنيا” وخلاف ذلك من التداعيات السلبية.
وعندما يصر المشترع على تكريس كل الجهود السياسية والانتخابية في العشرة أيام الأخيرة من مهلة الشهرين، وتحويل جلسة الانتخاب خلالها إلى هيئة انتخابية، وإنما هو تأكيد وإصرار على إنجاز هذا الإستحقاق الأساسي خلال المهلة الدستورية المحددة كمهلة حث للقيام بهذا الواجب الملقى على عاتق نواب الأمة، والذي ينبغي احترامه وجعله القاعدة الدستورية لتجاوز هذا الاستحقاق بالسرعة اللازمة، أو خلال المهلة المنطقية والمعقولة، وتغليب المصلحة الوطنية على أي اعتبار آخر.
إن المناورات التي شهدتها الجلسات الأربع التي انعقدت مؤخراً في المجلس النيابي لإنتخاب رئيس جديد للجمهورية، إن دلت على شيء فهي تبين بشكل واضح عدم قدرة أي من الفرقاء على تأمين نصاب الجلسة دون التفاهم أو التوافق مع غالبية مكونات المجلس النيابي، لتأمين هذا النصاب المحدد بثلثي أعضاء المجلس النيابي قانونا”، ليتسنى عقد الجلسة الانتخابية، وأنه لم يتم حتى الساعة هذا التوافق على تأمين النصاب القانوني وعلى المرشح التوافقي، وأنه لا يمكن فصل هذين الشرطين عن بعضهما البعض.
واللافت هنا، أن مهلة الشهرين لو كانت مهلة إسقاط وليست مهلة حث، لأجبر النواب على عقد الجلسات المطلوبة لإنتخاب الرئيس خلالها، كما تبين أيضا” أن الدستور لم يلحظ في (المادة 73 منه) تأمين نصاب الثلثين بعد عقد الجلسة الإنتخابية الأولى، مما يمكن اعتباره بمثابة الإغفال أو الثغرة في هذا الدستور، إلا أن الممارسة والعرف الدستوري قد كرسا هذه القاعدة، وأنا لست معارضا” لهذا العرف، لأن انتخاب رئيس للبلاد لمدة 6 سنوات لاحقة، لا يمكن أن يكون بأقل من ذلك عددا”، وحيث ينبغي إدخال هذه التعديلات التوضيحية في المجلس النيابي وفقا” للمواد (79، 78، 77، 76) من الدستور ونحن لا نعتقد بأن إرادة المشترع الدستوري قد اتجهت نحو إطلاق المجال للاستمهال في إنجاز هذه العملية الدستورية الأساسية في البلاد، بل على العكس من ذلك تماما”.
أما الثغرة الأخرى والأكثر غرابة، فهي عملية ترك الحرية للنواب لمقاطعة الجلسات دون أسباب واقعية ولعدد كبير من أعضاء المجلس النيابي، قد يتجاوز ثلث أعضاء المجلس دون مسوغ شرعي أو قانوني، وإنما فقط بهدف تعطيل النصاب أو ما يسمى بعملية “تطيير النصاب” القانوني عن سابق تصور وتصميم وليس بسبب سفر أو مرض أو حادث أو قوة قاهرة وما شابه ذلك من الأسباب المنطقية والشرعية، وهذه العملية المعتمدة في أعرافنا الدستورية دون النص عليها، ما هي إلا من الطرق الإحتيالية الملتوية بغية تعطيل العمل بالدستور وفقا” للأصول، لأن نواب الأمة مسؤولون تجاه شعبهم ووطنهم بالحرص على عدم إطالة مدة الفراغ في سدة الرئاسة الأولى وبما يتعارض مع المصلحة الوطنية العليا للبلاد، ومن المشاهدات المضحكة بل والمبكية، عندما نرى عددا” من النواب يقفون في لحظات معينة بالقرب من الباب الرئيسي، من أجل الخروج بسرعة من المجلس، بإشارة من كتلهم النيابية من أجل تعطيل نصاب الجلسة.
إن غلبة الورقة البيضاء على المسرح الانتخابي في الجلسات الأربع الماضية، وإن عبرت عن عجز أي من الأطراف على تأمين الغلبة على الآخرين في إطار المجلس بسبب عدم القدرة على تأمين النصاب، لكنها تهدف أيضا” إلى توجيه الرسائل للكتل المنافسة أو المعترضة أن أي مشروع لرئيس مواجهة أو تحدي هو خاسر حتما”، وأنه ينبغي الإتفاق على رئيس يسمى بالتوافقي، أي بالاتفاق المسبق بين غالبية الكتل والمكونات النيابية على إسم المرشح الرئيس، تحت طائلة تطيير النصاب في كل جلسة لا يتم فيها هذا التواقف المفترض، ثم تبرز الإشكالية التبعية لهذا المنطق المشوه في إختيار الرئيس أو تسميته، فمن يستطيع أن يفرض هذا الإسم في ظل الانقسام السياسي الواضح والأكيد بين الكتل النيابية؟ وذلك تبعاً لسياستها المحلة أو إرتباطاتها الخارجية. وبالنتيجة، وقياساًبحجم الأزمات والمعوقات التي تواجه لبنان في أصعب مرحلة يمر بها منذ نشوئه حتى اليوم، فنحن بحاجة الى هذا الرئيس التوافقي لأنه الخيار المنطقي والأكثر واقعية في الوقت الراهن للأسباب التي سبق ذكرها، ونتوجه الى السادة نواب الأمة، أن يبرهنوا لشعبهم في هذه الظروف الحرجة، أنهم قادرون على تجاوز هذه المحنة مغلبين المصلحة الوطنية العليا على المصالح الفئوية الضيقة، والاتفاق الطوعي على اختيار رئيس إستثنائي في ظل الظروف الإستثنائية، ومن أجل إعادة الثقة العالمية بلبنان، وإلا فإن الإرادة الخارجية كالعادة سوف تطل علينا من جديد، لأننا لم نتمكن بعد مئة عاما” من نشوء دولة لبنان، أن نكون على قدر المسئوولية الوطنية، وأن تعلو مصالح الخارج على مصالحنا الوطنية لأننا نقدس الوصاية والتبعية على قداسة الوطن وسيادته المفترضة. إن عملية تطيير النصاب دون أسباب قاهرة هي ثقب واسع في دستور الطائف تعبر منه قوى التعطيل والفراغ من أجل فرض شروطها على سائر مكونات المجلس النيابي ونترك إمكانية تعديل هذا النص الدستوري الملتبس على عاتق البرلمان في الأيام القادمة.