كيف صار ملف بيغاسوس وسيلةً للضغط والابتزاز؟؟؟
عبد السلام بنعيسي
عاد الحديث مجددا بقوة عن برنامج بيغاسوس واتهام صحف غربية المغرب كونه وظفّه في التصنت على مكالمات الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون في هاتفه الخلوي، ويقع التركيز على أن عملية التصنت هذه تعتبر أحد الأسباب الرئيسية الكامنة وراء التوتر الذي تعيشه العلاقات المغربية الفرنسية منذ ما يفوق السنة والنصف سنة…
وكانت الصحافة الإسبانية قد وجّهت نفس الاتهام للمغرب، واعتبرته المتهم الرئيسي في قضية التجسس على هاتف رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز، خصوصا في الفترة الممتدة بين أبريل وماي من سنة 2021، إثر اندلاع أزمة حادة بين الرباط ومدريد بسبب استقبال إسبانيا لزعيم الجبهة الانفصالية البوليساريو إبراهيم غالي، تحت اسم مُقنَّعٍ الذي هو محمد بن بطوش، للاستشفاء في المشافي الإسبانية من داء كورونا.
لنفترض أن المغرب تجسَّسَ على الرئيس الفرنسي وعلى رئيس وزراء إسبانيا، لماذا العلاقات بين الرباط ومدريد لا تزال على دفئها ومتانتها، في حين توترت هذه العلاقات مع باريس وأصبحت كما تصفها الصحافة الفرنسية تعيش عصرا جليديا؟ نحن أمام علَّةٍ واحدة، ألا وهي تجسُّسُ الرباط على دولتين تربطها بهما علاقات تاريخية صلبة، لكن ردَّ فعل فرنسا على اتهام المغرب بالتجسس على رئيسها، كان عنيفا ومتشنجا، في حين لم يصدر عن إسبانيا أي ردٍّ تجاه ما يسمى تجسس المغرب على رئيس وزرائها، بل ها هي إسبانيا ترفض توجيه أي اتهام للمغرب في قضية التجسس ببرنامج بيغاسوس، بعد استدعاء رئيسة المخابرات الإسبانية، إسبيرانزا كاستيليرو، من أجل الرد على 28 سؤالا طرحه أعضاء البرلمان الأوروبي بشأن قضايا التجسس التي طالت العديد من المسؤولين الأوروبيين، بمن فيهم رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز.
فحسب ما أوردته تقارير إعلامية أوروبية، فإن رئيسة المخابرات الإسبانية خيبت آمال أعضاء البرلمان الأوروبي، حيث لم تجب على أسئلتهم، واكتفت بالحديث عن القانون الإسباني الذي يمنع إفشاء معطيات ومعلومات من هذا القبيل، مشيرة إلى أنها ملزمة باتباع القوانين المعمول بها. وأضافت ذات المصادر، أنه أمام هذا الرفض، فإن إسبانيا لا تقبل توجيه أي اتهام للأطراف المتهمة في قضايا التجسس، بمن فيها المغرب.
لو كانت عملية التجسس على بيدرو سانشيز رئيس وزراء إسبانيا صحيحة، ولها تبعات خطيرة على الأمن الإسباني، كما يفترض أن لذات العملية التجسسية على رئيس فرنسا، لاستوجب الأمرُ اتخاذ تدابير إسبانية زجرية ضد المغرب، حتى إن أدى ذلك إلى توتير العلاقات بين الرباط ومدريد، ولما كانت السلطات الإسبانية تتردد لحظة واحدة في العمل من أجل جباية الثمن باهضا من المغرب، على غرار ما تسعى فرنسا لفعله حاليا..
لكن، حين تمتنع إسبانيا عن توجيه أي اتهام للمغرب بالتجسس عليها، فإنها تعلن عن هذا الموقف إدراكا منها بأن المشكل مفتعل من أساسه، وأنه لا يستوجب كل الضجة المثارة حوله، وأن مصالحها الاقتصادية والتجارية مع المغرب أهم وأفيد لها من الدخول في خصومات لا طائل من ورائها، وحين تُضخِّمُ باريس قضية بيغاسوس وتنفخ فيها، وتجعلها قضية أكبر من حجمها، فإنها تلجأ إلى هذا الأسلوب للتعبير عن قلقها وغضبها من المغرب، لأسباب يبدو أن ليست لها علاقة بالتجسس والتنصت على الهاتف المحمول لماكرون.
فرنسا دولة صناعية ومتقدمة جدا على المستوى التقني، وهي واحدة من أغنى دول العالم، وإمكانياتها المادية أوفر بكثير من إمكانيات أي دولة عالم ثالثية، وفرنسا كانت تحتل المغرب لأربع وأربعين سنة، ولها إلى اليوم نفوذ كبير في جميع دواليب الدولة المغربية، وعليه، فإن الذي يتعين أن يكون موضوعا للتجسس وضحية له، من طرف فرنسا، هو المغرب، لكن وسائل الإعلام الجبارة التي تمتلكها فرنسا ومعها الغرب، تجعل الأمر معكوسا، حيث يصبح المغرب هو الذي يتجسس على فرنسا، وعلى رئيسها.
يُجسِّدُ مانويل ماكرون في موقعه الحالي مؤسسة الرئاسة الفرنسية، إنه يملك أسرارا فرنسية وأوروبية ودولية غاية في الخطورة، فلديه مفاتيح استعمال السلاح الذري، ولاشك في أنه محمي من طرف كافة أجهزة الدولة الاستخباراتية الفرنسية التي تعبئ كل طاقاتها، حرصا على أمن الرئيس الفرنسي، وعلى الأسرار التي يحفظها، إنه كمن يعيش في كل الأوقات، ليلا ونهارا، نوما ويقظة، في قلعة يستحيل على أي كان التسلل إليها، فكيف يتمكن المغرب، في مثل هذه الظروف، من اقتحام مؤسسة الرئاسة الفرنسية، والوصول إلى رئيسها، والتجسس عليه في حياته الخاصة، وامتلاك قدرة التصنت على مكالماته الهاتفية في هاتفه المحمول؟ من هو العاقل الذي يصدق مثل هذه الادعاءات؟ ألسنا إزاء فيلم خيالي مفبرك لأغراض غير معلنٍ عنها؟؟
والسؤال الأساسي هو التالي: هل الرئيس الفرنسي يستعمل هاتفه الخلوي لإعطاء أوامره الرئاسية للوزراء وسامي الموظفين الفرنسيين، خصوصا إذا كانت أوامر يقتضي التوصل بها وتنفيذها السرية؟ هل من الصعب على ماكرون عقد اجتماعات مغلقة مع الوزراء وكبار الموظفين الفرنسيين، لمعالجة الملفات ذات الشأن الحساس، في أماكن مغلقة لا يدخلها أي كان؟ أليس من السذاجة بمكان تصور اتصال رئيس فرنسا بوزير من وزرائه قصد تزويده بأوامر سرية يتعقبها المغاربة وغير المغاربة لتصبح بين أيديهم، وتخرج بذلك على نطاق الخصوصية الفرنسية الرسمية؟ إذا تصرّف الرئيس الفرنسي على هذا النحو، ألا يتحمل وأجهزته الاستخباراتية المسؤولية عن التجسس الذي يقع عليهم، وعن تفشي أسرار دولتهم بين أجهزة مخابرات الدول الأجنبية؟؟؟؟
كل إنسان من أناس الكرة الأرضية يدرك اليوم أن الهواتف المحمولة تخضع لنوعٍ من التصنت، والناس، في أغلبيتهم المطلقة، يتحادثون عبر تلكم الهواتف، في القضايا ذات الطبيعة العمومية، أما عندما يريدون تناول ملفات تهمهم، ولا يرغبون في أن يطلع عليها غيرهم، فإنهم يعقدون لقاءات مباشرة، في أماكن تضمن لهم الحفاظ على سرية ما يتداولون حوله. هكذا يتصرف البشر العاديون، بالأحرى رؤساء الدول والحكومات الذين يسرون شؤون العالم، في حرصٍ شديد منهم على طبخ القرارات التي يشرفون على اتخاذها في سرية تامة، إلى أن يتفاجأ الرأي العام بها.
التصنت من طرف المخابرات على هواتف الصحافيين، ورجال الأعمال، وقادة الأحزاب والنقابات، ونشطاء المجتمع المدني، وحتى على الوزراء، وربما قادة الجيش، أمرٌ ممكن، وقد يستسيغه العقل، لكن التصنت على الرئيس الفرنسي، ورئيس وزراء إسبانيا، فهذا قولٌ فيه الكثير من المغالاة والخيال، وهو قولٌ يتمُّ ترويجه، للضغط والابتزاز بواسطته، من أجل الحصول من المغرب على مكاسب ومنافع أخرى لا علاقة لها ببيغاسوس…