المراسل العربي في التغطية للحرب الأوكرانية
د. خالد العزي
لم تلق حرب في العالم من تغطية واهتمام إعلامي كما حال الحرب الروسية الأوكرانية، التي كانت تتضمن في مضمونها حربا إعلاميا واضحة بين الطرفين، وسط لجة استخدام الصورة والمصطلح والفديوهات والمعلومات، واستعمالها لخدمة كل طرف من الأطراف المتحاربة، حيث باتت الدعاية هي السلاح الواضح من أجل خدمة المعركة.
لقد ألقت التصريحات السياسية والسجالات التي تدور بين المسؤولين الروس وخصومهم في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، بظلالها على مسار التغطيات الإعلامية، وتأطير معالجات وسائل الإعلام بشكل خاص، وكانت بقدر من القوة والحسم لتحديد التأثيرات التي يمكن أن تخلفها الحرب على مستويات عدة، بينها: مكانة روسيا العالمية وعلاقتها بالمجتمع الدولي، ومستوى الدمار الذي يمكن أن تخلفه الحرب على العلاقات الروسية الأوروبية، والتأثير الذي يمكن أن تصنعه الحرب على أمن أوروبا والعالم. بالرغم من المحاولات العقيمة التي حاول المراسلون تغطية سير الحرب ولكن الأزمة كانت أكبر بكثير من قدرات المراسلين البسيطة، لكون المعركة كانت تستخدم سلاح الإعلام، ليس فقط لإبراز المعلومة، بل كونها سلاح للتفوق على الآخر. من هنا نرى بأن الإعلام العربي بشكل خاص، قد فشل في التغطية لهذه الحرب كما الإعلام العالمي بشكل عام .
لذلك ساهمت التطورات والأحداث العالمية على مختلف أنواعها، معطوفة على التطور الكبير الحاصل في الميدان الأوكراني، المتعلق بمجال الإعلام والاتصالات، في تطوير دور المراسل والمهام الملقاة على عاتقه، وقد ازدادت معها المسؤوليات المترتبة عليه، مما أدى أيضا إلى تغيير جذري في المواصفات المطلوبة في الشخص المفترض تأديته لهذه المهمة، إن لناحية الدارسة أو الخبرة أو الثقافة المطلوبة، كما بات التخصص في نوعية المهام والتغطية ضروريا، وأصبح المراسلون أكثر ثقافة وتخصصا، لكن يبقى للمراسل الحربي أو الميداني مواصفات مهنية محددة من أجل التغطية للأعمال الحربية والقدرة على نقلها من الميدان.
لذا، يظن الكثيرون أن عمل المراسل التلفزيوني سهل، ولا يتطلب منه سوى التنقل من مكان لآخر، والوقوف أمام الكاميرا لنقل الأحداث والتطورات، وهذا ليس صحيحا. فالظهور على الشاشة في حد ذاته تحدٍّ كبير؛ وعلى المراسل أن يبذل كامل جهده كي يوصل صورة الحدث والأخبار بدقة وسرعة ومصداقية دون أن يرتكب أخطاء وهفوات تقلل من مهنيته وتؤثر على سمعته.
مع ذلك، تغزو الكثير من الشاشات العربية وجوه مراسلين يرتكبون الأخطاء المهنية والأخلاقية دون محاسبة. بعض أسبابها يعود إلى المراسل نفسه، مثل قلة الخبرة، وغياب الضوابط المهنية. وأسباب أخرى تتعلق بالمؤسسات الإعلامية ذاتها، التي يغيب عنها تقديم الإرشاد المهني للمراسلين، سواء عند إعداد تقاريرهم أو أثناء الظهور في البث المباشر خلال الأحداث الكبرى، فضلا عن هرولة العديد من القنوات الفضائية نحو نقل الخبر بسرعة لكسب المشاهدين، بدلاً من التأكد من صحته ومصداقيته.
إذن، التغطية تحتاج إلى تخطيط، وتأمين لوجيستي لفرق العمل الميداني. لكن هناك تساؤل هام أيضا عن المصطلحات المستخدمة لتوصيف هذا الصراع أو ذاك، والأسس التي يتم الاستناد إليها في اعتماد مصطلح ما، وهل هناك معايير علمية مضبوطة تحكم استخدامها، أم هي اجتهادات واقتراحات “تحريرية” فقط لا تستند لأسس معينة، أو توجهات مالكي الوسيلة الإعلامية، المرتبطة بتحديد سياستها اتجاه هذا الحدث أو غيره، لأنها من المؤثرين أو المتأثرين به، الأمر الذي يتنافى مع فكرة “الحياد الإعلامي”. وهذا يطرح مفهوم الموضوعية. لذلك يمكن القول أن المعايير التقليدية السائدة، كتلك التي تفضّل الموضوعية كمعيار راسخ في التقليد الصحفي منذ عقود، هي الخيار الأسلم الذي يجب الالتزام به في بعض الحالات، أو لعلها كانت كذلك خلال فترة لم تعد شروطها قائمة، وهو ما يعني ضرورة الانفتاح على طرق جديدة للتفكير. ولاختبار هذا الافتراض علينا أن نسأل أنفسنا من جديد، ما الذي نعنيه بمفهوم “حرية التعبير”؟ وما التعريف السائد له، ولماذا صار سائدا؟؟ كثيرا ما تتغيّر المحظورات وتصبح ضرورات، والتقليد ليس مبدأ في ذاته، وهو ما يستلزم ضرورة توخي الدقة عند صياغة القصص الصحفية بالانطلاق من تقاليد يتم التعامل معها على أنّها مبادئ معيارية.
من هنا نرى بأن المراسلين الذين ذهبوا للتغطية في أراضي أوكرانيا فشلوا بالتغطية، نتيجة طبيعة المعارك غير المتعارف عليها في تغطية الحروب الأخرى، تكللت بالتالي:
– صعوبة فهم اللغة الروسية والاوكرانية، وعدم التنسيق المسبق مع الأطراف المعنية على الأرض، مما كنا نشهد في التغطية بأن هناك صعوبات واضحة.
– غياب التنسيق الكامل مع الأوكران، وهذا كان واضحا لدى التلفزيونات العربية بشكل فاضح والشاشات العالمية.
– غياب المعلومة وعدم القدرة للوصول إليها من المصادر الحقيقية، نتيجة البعد وعدم وجود صلات سابقة تم ترتيبها، وربما يعود الأمر لأن المحطات كانت تعتبر الأمر سباقا صحفيا، ومن يتقن الانكليزية سيتمكن من التغطية بسهولة.
– غياب التنسيق مع الإعلاميين الأوكران، مما حجب الكثير من المعلومات عن الشاشات، لكون الأوكران كان ينظرون بعين الحذر للإعلامين ولا يريدون الإفصاح عن معلومات قد تفرح صدر العدو.
– الدولة الأوكرانية، كما الروسية، استطاعتا ضبط الإعلام والتحكم به كل بطريقة مميزة مختلفة عن الأخرى من خلال استراتيجية واضحة لنشر المعلومات، لأنهم يعتبرون الإعلام ليس لعبة أو معلومات أو مصطلحات، بل هي معركة تكمن ضمن مفهوم القوة الناعمة التي يمكن تؤدي خدمتها لصالح الحملة الإعلامية الأوكرانية والتأثير على الخصم. ويسجل للأوكران بانهم استطاعوا كسب المعركة الاعلامية والدعائية عكس الروس.
– مشكلة فرض حظر التجوال على المواطنين، بمن فيهم الإعلاميون العرب الذين كانوا يقولون بصراحة بأنهم متواجدون في الملاجئ من الخامسة حتى الثامنة صباحا. أما على الجبهة الروسية لايعتبر وضع المراسلين للأحداث أفضل بكثير من الجبهة الأوكرانية لأن الاعلام الروسي يلتزم بسياسة إعلامية تفرض على الجميع، وبالتالي يلتزم بما تنشره الخارجية الروسي ووزارة الدفاع من معلومات يتم التستر عليها كليا وبالتالي تبقى مهمة المراسل في بث رسائل بعيدة عن الجبهة. وهنا تكمن المفارقة في تغطية إعلام المعارضة الروسية، التي تبث من قلب الأحداث، وتملك إمكانية كبيرة في عرض المواضيع، والتقصي عن المعلومات المقدمة، من خلال التواصل السريع مع المراسلين في كافة المناطق والمدن الأوكرانية المجهزين بكل الوسائل والتقنيات الحديثة، بالإضافة إلى فتح الهواء مع خبراء وشخصيات ومحللين على صلة بالوضع من خلال تجاربهم ودراستهم ومعرفتهم باللغة وبالأرض، وطبيعة الحياة والمواضيع المطروحة، مما يساهم بإعطاء صورة كاملة عن طبيعة الحدث.
وهذا ما شهدناه مع مراسل “العربية الحدث” (حذيفة عادل في كييف)، بالرغم من نشاطه وقدرته ومحاولة إظهار الصورة، ومراسل “سكاي نيوز عربية” (سلمان العنداري)، الذي عمل جاهدا لتأمين المعلومات، و(رامز القاضي) من قناة “الجديد” و(ألان درغام) من قناة “إم تي في”، الذي تميزت إطلالته بطريقة العفوية والخصوصية، وخاصة لجهة الاهتمام بمواضع المواطنين اللبنانيين العالقين بالمدن الأوكرانية، وأما المراسلة والإعلامية الشجاعة (كريستيان بيسري) “الحدث العربية”، التي كانت ولاتزال تتواجد في أوكرانيا، وتحاول التغطية بطريقة جميلة للإضاءة على ما يحدث من أحداث وجرائم حرب ضد الإنسانية بحق المدنيين العزل، وما ترتكبه الآلة الروسية من تخريب وقتل ودمار يدفع ثمنها المواطن الأوكراني العادي.
إذن، كل هذه المعاناة، والكثير منها لا يذكر، لابد من القول بأن الصورة التي يمكن إظهارها هي التي تتكلم دون سرد كثير للموضوع، ولذلك على المراسل أن يسأل نفسه: هل تتوفر الصور الكافية لتناول قضية ما؟ إن كان الجواب نعم، فليخرج إلى مقصده، وإلا فعليه عدم المجازفة بإعداد قصة تغيب عنها الصورة التي تُعد أساس التلفزيون.
لذا دور المراسل يكمن في تعريف بسيط بأن يمثل التواصل بين الحدث والمتلقي، أي مرحلة الإعداد كوسيط بين الحدث والمصدر من جهة والمؤسسة من جهة أخرى.
لذلك يمكن تعريفه بأنه الوسيط بين مختلف أفراد طاقم العمل في فترة البث لكونه يطل على الجمهور لتقديم الرسالة الإعلامية من مكان الحدث. وفي فترة الحرب يصبح الإعلام الحربي يهتم بجمع المعلومات وتحليلها ومعالجة البيانات التي تصدر من أفرقاء الحرب، لتقديمها بطريقة واضحة، بعيدا عن فبركة المعلومات، من خلال التأكد من مصداقيتها وصياغتها بأسلوب يتقبله المجتمع، وبثها محليا وعالميا. وذلك يستوجب تزويد المشاهد بمعلومات صحيحة وإحباط الحملات المضادة التي تضعف الروح المعنوية والتأثير على معنويات المشاهدين، نتيجة التأثر بالحملات الدعائية الهادفة لذلك. ووفقا لذلك، نرى بأن تغطية أحداث أوكرانيا أخفق فيها الإعلام العربي والعالمي بشكل واضح، مما سببت عدم القدرة على التغطية الواضحة لطبيعة الأحداث التي تجري في أوكرانيا بالرغم من الجهود الكبيرة المبذولة من المؤسسات والطواقم الاعلامية والمراسلين الحربيين.