المحكمة الدولية والجرائم ضد الإنسانية

المحكمة الدولية والجرائم ضد الإنسانية

د. وفيق ريحان

     لقد فاقت جرائم الحرب المخالفة للقانون الدولي الإنساني ومجازر الإبادة الجماعية التي ترتكبها حكومة نتنياهو ومجلسه الحربي، كل التصورات الممكنة في هذا العصر، حيث شكلت تلك الجرائم المتمادية بحق الشعب الفلسطيني أكبر تهديد لمسيرة السلم العالمية، ولفاعلية تطبيق القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية ومدى تأثيرها على ضمان المنظمات الدولية الإنسانية والمحاكم الدولية المرتبطة بالأمم المتحدة ومجلسها الأمني لحقوق الإنسان وتلمس مآسي الشعوب الفقيرة أو النامية، وحفظ حقوقها الإنسانية وفقاً لشرعة حقوق الإنسان، وحق تلك الشعوب في تقرير مصيرها والعيش بكرامة في ظل دولة مستقلة وذات سيادة، لتتمكن من تأمين مستقبل أجيالها الصاعدة، وتنمية إقتصادياتها وتأمين الإستقرار الإجتماعي والأمني والمالي لها، وضمها الى الأسرة الدولية بصورة متساوية مع سائر الدول والشعوب والأمم العالمية.

 تداعيات الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني

     إن ما يحصل اليوم على أرض فلسطين بوجه عام، وفي قطاع غزة بوجه خاص، لم يسبق له مثيل منذ إلقاء القنبلة الذرية على مدينة “هيروشيما” اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية، في أبشع صورة للجريمة ضد الإنسانية، وها هي تتكرر اليوم على أرض فلسطين أمام مرأى ومسمع العالم بأكمله، ولقد كان للخطوة الجريئة التي قامت بها دولة “جنوب أفريقيا” من خلال الدعوى التي تقدمت بها منذ أسابيع أمام محكمة العدل الدولية الأثر الكبير في إعطاء جرعة من الأمل وبعض الثقة لشعوب العالم بالمنظمات الدولية ومحاكمها العدلية والجنائية، وحيث كان لقرار تلك المحكمة الصدى الإيجابي في محاولة ردع دولة إسرائيل العنصرية عن التمادي في خرق إتفاقية “منع الإبادة الجماعية” للعام 48، والتي كانت من أوائل الدول التي إنتسبت إليها، بعد إحتلالها للأراضي الفلسطينية وإقامة دولتها التوسعية على حساب “قضية الشعب الفلسطيني”، بإعتبار أن اليهود قد تعرضوا سابقاً لجرائم مماثلة (محارق الهولوكوست).

أبرز تجليات خرق إتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية

     لقد جرى التوقيع على اِتفاقية “منع الإبادة الجماعية” وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في كانون الأول من العام 1948، والتي أصبحت نافذة ومعمولاً بها بتاريخ 12 ك2  للعام 1951، بحيث اعتبرت تلك الأعمال جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعارض مع روحية الأمم المتحدة وأهدافها النبيلة، والتي يدينها المجتمع المتمدن والحضاري، وهي تطبق بوجه خاص على الدول المنتسبة إليها.

ولقد حددت (المادة الثانية) من تلك الإتفاقية، مفهوم الإبادة الجماعية بالأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية  أو عنصرية أو دينية، وذلك من خلال قتل أعضاء من تلك الجماعة، وإلحاق الأذى الجسدي أو الروحي الخطير بأعضاء من تلك الجماعة، أو بإخضاع تلك الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، أو بفرض تدابير تستهدف الحؤول  دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، أو القيام بنقل أطفال من الجماعة عنوة الى جماعة أخرى. وفي الحقيقة، فإن دولة الإحتلال قد قامت ولم تزل بجميع تلك الأعمال عن سابق تصور وتصميم، وبروح إجرامية عالية المستوى، بالرغم من صدور القرار عن محكمة العدل الدولية، والذي يلزمها بتقديم تقريرها خلال مدة شهر من تاريخ صدور ذلك القرار، بالنسبة للإجراءات والتدابير التي تنوي القيام بها، من أجل الحد من تلك الأعمال والإقلاع عنها، تحت طائلة المساءلة أمام مجلس الأمن الدولي والمحاكم الجنائية الدولية، لكن الحقيقة الصادمة، هي إستمرار وتيرة التمادي في إرتكاب تلك الجرائم الموصوفة بالإبادة والتنكيل العرقي، ومحاولة تهجير الفلسطينيين الى خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة بكافة الوسائل غير المشروعة والهمجية.

     وتؤكد إتفاقية منع الإبادة الجماعية على وجوب معاقبة كل من يقوم بتلك الأفعال، أو من يتآمر على إرتكابها، أو من يشترك أو يحرض بصورة مباشرة على القيام بها، سواء كانوا حكاماً دستوريين أو موظفين عامين أو من الأفراد، وذلك بعد محاكمتهم بقرار من مجلس الأمن الدولي أمام المحاكم الدولية الجنائية والإنسانية.

    بناء عليه، فإن حكومة رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي ومجلسها الحربي، وكل من شارك أو تآمر أو حرض على إرتكاب تلك المجازروبوجه خاص الولايات المتحدة الأميركية ، هم جميعاً في قفص الإتهام وينبغي تطبيق العدالة الدولية بحقهم وعدم الإفلات من العقاب بكافة أشكاله ووسائله المعتمدة قانوناً.

الخرق الفاضح لإتفاقيات جنيف المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في زمن الحرب

     لقد أقر المؤتمر السابع عشر “لمنظمة الصليب الأحمر الدولي” المنعقد في جنيف في 12 آب للعام 1949، الاتفاقيات الأربع المتعلقة بحماية الجرحى والأسرى والأشخاص المدنيين في زمن الحرب (مؤتمر ستوكهولم)، ولقد وقعت على هذه الإتفاقيات دول عدة، أبرزها دولة إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة وفرنسا وسواها من الدول العربية والعالمية، ومنحت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي كهيئة إنسانية محايدة، إمكانية تقديم الخدمات الإنسانية لأطراف النزاع، لا سيما في ظل عدم وجود الدولة الحامية.

ولقد نصت إتفافية جنيف الرابعة، أنه في حالات الإحتلال الكلي أو الجزئي لأراضي أحد الأطراف، حتى ولو لم تكن إحدى هذه الدول المشتبكة في القتال طرفاً متعاقداً بهذه الإتفاقية، فإن الدول المتعاقدة تبقى ملتزمة بأحكامها في علاقاتها المتبادلة في زمن الحرب أو الإشتباكات المسلحة. كما أكدت هذه الإتفافية على وجوب معاملة الأشخاص الذين ليس لهم  دور في الأعمال العدائية، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين وقعوا في الأسر، أو أبعدوا عن القتال بسبب المرض أو الجروح، معاملة إنسانية، وذلك دون أن يكون للسلالة أو اللون أو الدين أو الجنس وخلافه، أي تأثير ضار على تلك المعاملة.

أبرز محظورات إتفاقية جنيف:

     لقد حظرت اتفاقيات جنيف بشكل عام كل أعمال العنف أو القتل أو التعذيب أو بتر الأعضاء أو المعاملة القاسية لأسرى الحرب، من مدنيين أو عسكريين، كما حظرت أخذ الرهائن دون مسوغ شرعي، والإعتداء على الكرامة الشخصية، وإصدار الأحكام العرفية، وتنفيذ الأحكام دون محاكمة “أمام محكمة مشكلة قانوناً”. كما أكدت تلك الإتفاقيات على ضرورة إحترام دفن الجثث، وإجراء الفحوصات الطبية لها للتأكد من حالة الوفاة ووضع تقرير بشأنها، وأن تبقى المقابر محترمة ومحفوظة ومميزة، وذلك (وفقاً للمادة 17 من إتفاقية جنيف الأولى). كما حظرت الإعتداء على المنشآت الطبية وحمايتها من كل سوء، وحماية طاقمها الطبي ولو وقعت بيد الطرف المعادي، وأن يترك لهم حرية مواصلة العمل الإنساني (المادة 19 منها). كما يحق للوحدات الطبية أيضاً أن يكون لديها مسلحين للدفاع عنها وعن المرضى أو الجرحى الذين يتولون أمرهم، وأن تكون لها نقطة حراسة، وأن توجد فيها بعض الأسلحة الصغيرة، أو الذخيرة التي أخذت من الجرحى ولم تسلم بعد الى الإدارة المختصة، وأن تمتد الجهود الإنسانية لهذه المنشآت لتشمل العناية بالجرحى والمرضى من المدنيين في حالة الحرب.

     وبالنتيجة، هل ستنجح محكمة العدل الدولية في الحفاظ على سير العدالة الدولية، وتطبيق الإجراءات الملزمة على دولة إسرائيل المعتدية ومنع إستمرارية إرتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتهجير القسري لأبناء فلسطين المحتلة؟ أم أن همجية الصهاينة سوف تهدر مسيرة السلم العالمي؟

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. وفيق ريحان

أستاذ جامعي