إيتمار بن غفير: أفعى التطرف الصهيوني
سعيد بوخليط
أفرزت الآلة الصهيونية التوتاليتارية على امتداد تاريخها، زمرة سياسيين وعسكريين متطرِّفين للغاية، بل إنَّ منظومتها الإيديولوجية بصدد تقليص دائم ومستمِرٍّ لمجال أنصار العلمانية والدولة الحديثة، مقابل توسُّع وتوطُّد قاعدة التطرُّف العقائدي؛ لاسيما اللاهوتي المؤمن بالعنف، فقد استلهم أغلبهم النصوص التوراتية، الدَّاعية إلى ترسيخ دولة إسرائيلية ”نقيَّة” تماما من شوائب باقي الأجناس والعقائد الأخرى غير اليهودية، ويضمر أصحاب هذه النظرة استعدادا منقطع النظير بغية إحراق العالم بأكمله، في سبيل تحقيق هذا المشروع ”الإلهي”، كما الحال طبعا بالنسبة لجلِّ متطرِّفي الديانات الأخرى.
عموما، حين التطرُّق إلى إشكالية هذا الموضوع، والانتقال آليا نحو إعادة الحديث عن اللحظات الكبرى لتشكُّل الدولة العبرية منذ النكبة، يبرز التمييز الأساسي بين جيل الآباء المؤسِّسِين، فريق الصقور الذي أرسى فعليا المرتكزات واختبر رموزه عسكريا، سياسيا، مخابراتيا، إيديولوجيا، حيثيات الصراع التاريخي مع العرب، منذ دافيد بن غوريون حتى أرييل شارون، مرورا بليفي أشكول، إيغال آلون، غولدا مائير، إسحاق رابين، مناحيم بيغن، إسحاق شامير، شمعون بيريز. بينما، تمثل حقبة وصول بنيامين نتنياهو إلى سدَّة الحكم يوم 18 يونيو 1996، نهاية سياق تلك الحقبة وبداية تبلور توجُّهات جيل جديد.
يعدُّ إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الحالي، أحد الأسماء المنتمية لمنظومة الجيل الثاني بجانب نتنياهو وآخرين. هذا الرجل، الزاخر كراهية وعدوانية وحقدا بكيفية لا توصف على غير اليهود، ليس متطّرِفا صدفة أو ادِّعاء أو فقط لمجرد الاستهلاك السياسي، بل يعكس حالة وجودية مكتملة وقائمة الذات منذ أولى سنوات طفولته وشبابه.
ولد بن غفير يوم 6 مايو 1976 في القدس من أبوين يهوديين شرقيين المعروفين بتسمية السيفارديم، عراقيَيْن من أصول كردية، انتمت أمُّه إلى حركة صهيونية تسمى ”إيتسيل”، تأسَّست عام 1931 قصد استهداف الفلسطينيين بالقوة. حينما بلغ سن الثانية عشر، صار متديِّنا بشكل كامل أو ”تائِبٍ” وفق التقاليد اليهودية، ملتزما كليا بالطقوس الدينية، بحيث شكَّلت التوراة منذئذ مرجعيته الفكرية الوحيدة.
خلال تلك الحقبة، دأب على زيارة مدرسة الفكر اليهودية، بزعامة الحاخام الشهير مائير كاهانا رائد حركة ”كاخ” الإرهابية، قصد دراسة التعاليم الدينية التي صاغها كاهانا وتأمُّل مضامين التوراة، ثم انضم بكيفية رسمية عند بلوغه السادسة عشر إلى تلك الجماعة الدينية العدمية بالمطلق، وممارسته بكل أريحية أنشطته المتطرفة غاية أن أدرك مرتبة مسؤول أول عن شبيبتها. هكذا، ترسَّخت مقتضيات الصهيونية الدينية لدى بن غفير، مستلهما نموذج الحاخام، وفق حدَّي: النص التوراتي، وسلاح البندقية.
دعا كاهانا (1932-1990)، أستاذه المباشر، إلى التخلُّص من كلِّ العرب المتواجدين على الأراضي الإسرائيلية، بأسلوبي السياسة أو العنف، معتبرا غير اليهود أعداء حقيقيين يلزم طردهم. في المقابل، ينبغي على جلِّ يهود العالم الرحيل صوب فلسطين .رفض مفهوم الديمقراطية، رغم أنَّ بدايته السياسية تحقَّقت بفضل فوزه بمقعد في الكنيست عام 1984، واختزلها إلى مجرد آلية تناسب أفق من جهلوا كنه نصوص التوراة التي انطوت على أوامر إلهية تدعو إلى سيادة اليهود.
صنَّفت تعاليم كاهانا بنية العالم حسب تراتبية عنصرية، تتسامى بالعرق اليهودي غاية درجة مقدَّسة، يمنحه إحساسا نفسيا بالتفوق؛ من ثمَّة حقه كي يرفض العيش مع غير اليهودي.
إذن، منذ الصغر، أظهر بن غفير عداء جذريا نحو الفلسطينيين والعرب، بحيث انخرط في تظاهرات يمينية بين صفوف حزب “موليدت” الصهيوني المتطرف بزعامة الجنرال رحيعام رئيفي، ولم يتجاوز سنّ الرابعة عشر ثم اكتسب أولى معالم الشهرة عندما سرق إشارة سيارة إسحاق رابين، ملوِّحا بها عاليا أمام كاميرات الصحفيين ومردِّدا العبارة التالية: “لقد وصلنا إلى سيارته مثلما نستطيع أيضا الوصول إليه”. فقد أعلن بن غفير رفضه المبدئي لتوقيع رابين اتفاقية أسلو عام 1993، مع ياسر عرفات قصد إنهاء سنوات النزاع. لم تذهب صرخة بن غفير سدى، بحيث اغتيل رابين يوم 4نوفمبر 1995، على يد يهودي متطرف، ثم قاد حملة قصد إخلاء سبيله وإخراجه من السجن.
أيضا، ضمن نفس المنحى، أقام بن غفير احتفالات ووزَّع الهدايا، حينما انهزم شارون أمام غيبوبة مَرَضية طويلة، انتزعته انتزاعا من مضمار السياسية، واتخذ قبل ذلك قرار الانسحاب من غزة أو ماعُرف آنذاك بخطَّة فكِّ الارتباط. صرَّح بن غفير مؤوِّلا مصير شارون بقوله: ”نأمل أن تكون هناك رسالة لكل من يريد المسّ بأرض إسرائيل، لأنها أقوى منّا جميعا”.
عندما أنهى دراساته في الطور الثانوي، وبلوغه السنِّ القانوني، سعى بن غفير الانتماء إلى صفوف الجيش، لكنه أُعفي جراء مواقفه و سلوكاته المتشبِّعة بقيم اليمين الديني، الموغلة في التشدُّد والعنف.
رغم تكوينه القانوني ونيله شهادة جامعية عليا سنة 2008، فتحت له السبيل كي يمتهن المحاماة، استمرَّ فكره بعيدا غاية البعد عن روح الشَّرائع الوضعية وحقيقة الجوهر الإنساني، موصولا دون تردُّد إلى نواة نزوعه العدواني الفطري، فكان سجلّه الجنائي زاخرا بخمسين تهمة أساسها اقتراف الشَّغب، دعم منظمة إرهابية، والتحريض على العنصرية مثلما فعل سنة 2007، لمَّا خرج إلى الشارع رافعا لافتة تضمَّنت عبارة مستفِّزة ومثيرة للضغائن والأحقاد: ”اطردوا العدوَّ العربي”. يقصد في المقام الأول، فلسطينيي الداخل، معتبرا إيَّاهم كتلة تبعث على الرِّيبة والشكِّ تفوق خطورتها التَّهديد الإيراني وكذا ساكنة الضفة الغربية وغزة. يتجلَّى نشاطه واضحا داخل المستوطنات، وقاد المستوطنين خلال مناسبات عديدة وجهة اقتحام المسجد الأقصى قصد استفزاز الطرف الفلسطيني، مما يؤدِّي إلى مزيد من تأجيج أسباب الصراع وإشعال فتيل الحروب الهمجية كما الوضع حاليا في غزة.
تبعا لمؤشِّرات المعطيات نفسها، الدالَّة رمزيتها على هذا الجانب العدواني في شخصيته، ويفسر جانبا من آلياته النفسية والذهنية، تمسُّكه بتأثيث جدار منزله المتواجد في مستوطنة ”كريات أربع” في مدينة الخليل، ببورتريه كبير لباروخ جولدشتاين، أحد أتباع حركة كاخ، الذي ارتكب يوم 25فبراير 1994 مجزرة المسجد الإبراهيمي، فقتل تسعة وعشرين فلسطينيا.
حُظِرت كاخ وصنِّفت جماعة إرهابية، أنَّ ذلك لم يوقف بن غفير عن مواصلة سعيه، بالتالي تحوَّل إلى زعامة صفوف حزب القوة اليهودية أو العظمة اليهودية الذي تأسَّس عام 2013، من طرف نفس أنصار الحاخام، مستندين على المنطلقات ذاتها، لكن بتمويه أكثر، قياسا للسابق، فقد استندت برامجه الانتخابية على المحاور التالية: رفض حلِّ الدولتين، الدفاع عن الدولة اليهودية على جميع المستويات تمثِّل العبرية لغتها، أرض إسرائيل وجميع مناطقها التي حدَّدتها التوراة في ملكية مختلف أجيال اليهود، ترسيخ التربية اليهودية، سيادة القانون العبري، تشجيع هجرة اليهود إلى إسرائيل وطرد الغرباء، تشجيع الاستيطان…
انتُخِب عضوا في الكنيست شهر مارس 2021، حدث وصفته صحيفة هاآرتس بـ: ”اليوم الأسود في تاريخ إسرائيل”، أما بن غفير فلا يكترث لأيِّ رأي سوى مايؤمن به، لذلك أفصح ثانية بكل وضوح عن طبيعة تصوره للتعايش: ”ينبغي إزالة أعداء إسرائيل من أرضنا”.
أخيرا، صار بن غفير مسؤولا سياسيا ذا نفوذ كبير في حكومة تل أبيب، بعد إبرام تحالف بين حزبي القوة اليهودية والليكود، لمَّا عيَّنه بنيامين نتنياهو وزيرا على حقيبة الأمن الداخلي وكذا امتلاكه صلاحيات تسوية وضعية المستوطنات العشوائية في الضفة الغربية.