هكذا هو عبد الرحيم برادة

هكذا هو عبد الرحيم برادة

جواد مديدش

بعد أسبوع واحد فقط من ترحيلنا إلى السجن المدني (اغبيلة) بالدار البيضاء، بعد ثمانة أشهر أمضيناها معتقلين في درب مولاي الشريف، تلقيت زيارة من المحامي الخاص بي. كان ذلك في شتنبر 1975. 

في المزار الذي وُضعت به. سمعت صرير باب يفتح ورجل يظهر. 

 لم أكن أعرف عبد الرحيم برادة بعد. لكني سمعت عنه. 

من نصحه بالمجيء والدفاع عني؟ 

حتى اليوم ديسمبر 2021 لا أعرف.

 على كل حال، الرجل الجالس أمامي لم يلهمني الكثير من الثقة، حتى أنه أرهبني قليلا بنظرته المباشرة ووجهه الذي لم يُظهر أدنى ابتسامة.  

ربما وقوف حارس السجن بدون حراك خلف الباب، يراقب من خلال كوة الباب كلماتنا وأفعالنا وحركاتنا، هو ما منعه من أن يكون في وضع أكثر راحة وأكثر ابتسامة، وأقل توترا. 

 ما زلت أتذكر سؤالين طىرحهما علي: 

– هل تتم معاملتك بشكل جيد في السجن؟ 

– هل سمعت أثناء استنطاق الشرطة بدرب مولاي الشريف عن معتقل يدعى البقالي، يُزعم أنه توفي تحت التعذيب؟  

أجبت أن اسم البقالي لا يعني شيئا بالنسبة لي، والشخص الوحيد الذي أعرف أنه قضى تحت التعذيب هو عبد اللطيف زروال. 

افترقنا بعد ربع ساعة. 

هذه المقابلة، القاتمة إلى حد ما، في هكذا مزار أكثر قتامة، كانت أول اتصال بي مع رجل تمكنت من التعرف عليه مع مر السنين، منذ ما يقرب من نصف قرن. 

مهذب، إنساني، ذكي، مستقيم، مثقف، مع قناعات راسخة لا تنازل عنها، إصراره على الدفاع عن أفكاره وقناعاته، على حساب مصالحه الشخصية والعائيلة، لم يكن يخلو من إزعاج وامتعاض بعض الأعزاء على قلبه. 

عبد الرحيم هو كذلك، يُقبل كله أو يُترك كله..

 جدالاته الشجاعة مع أفزاز، رئيس المحكمة التي حاكمتنا، كانت لحظات قوية ومضيئة، محفورة في الذاكرة الجماعية للسجناء. قاعات المحكمة، هاتف تحت التنصت، وجواز سفر مصادر، وترهيب وتهدبدات من شأنها أن تثبط أي واحد، ولا شيء يهز عزيمة الأستاذ برادة.

 صعقته الأحكام الثقيلة التي صدرت في حقنا. 

 بعينين حمراوين من فرط الدموع اقترب مني، وربت على كتفي بيد مرتجفة، وهمس بصوت مؤثر.. “كوراج”. 

 كانت الساعة السادسة صباحا من أحد ايام شهر فبراير 1977. في تمام الساعة العاشرة صباحا من نفس اليوم، تم اقتيادي إلى نفس المزار، فكانت الزيارة الاقل توقعا بالنسبة لي، ماذا يريد الرجل؟

 قلت لنفسي. وأنا أعبر ممر “الحي الأوروبي”؟ 

انتهت المحاكمة، وصدرت الأحكام، فلماذا هذه الزيارة مرة أخرى؟ تساءلت.

 لا، هذا المحامي يأخذ الأمور على محمل الجد، فبدلا من الذهاب لأخذ إجازة وقلب صفحة محاكمة كهذه، توجه لزيارة “موكليه” في اليوم التالي لصدور الاحكام.

 بالنسبة لعبد الرحيم، الأمر أكثر من مجرد واجب، إنه ضىرورة. 

بعد خمسة وأربعين عاما من لقائنا الأول، ظل عبد الرحيم كما هو، صادقاً مع نفسه، منسجماً مع ذاته.

 نشأت صداقة وثيقة بين أسرتينا: وأنا وزوجتي نعيمة، هو ومونيك. يستمتع صديقنا عبد الرحيم بصحبة من يحبهم ويحترمهم. أمضينا أمسيات معا في النقاش، وإعادة تشكيل العالم، والضحك بصوت عالٍ. دائما ما يكون كأس طيب المذاق أنيسنا، هذا “الكاس النقي” الذي يسر تفاهمنا ووطد علاقتنا جيدا! 

ذات يوم، جاء يطرق باب منزلي بعد نشر كتابه. أصر على تسليمه لي شخصيا، هو هكذا عبد الرحيم، مخلص لصداقاته، ومهذب، وينشد الإتقان.

 من خلال الكتاب، يمكن إدراك شخصية الرجل بشكل أفضل، هذا القلم الجميل الذي لا يساوم، يتحدث بشكل مباشر، بدون زخرفة. ليس لدى المؤلف ما يخجل منه، صفحة نظيفة بدون أدنة تشطي، ويريدها أن تبقى على هذا النحو حتى آخر نفس له.

 هكذا هم عبد الرحيم، خذه كما هو أو اتركه كما هو.

 لن نتنازل له،

 نحن نتطلع بشوق وحب اطلاع إلى كتابه الموالي، حيث لا تزال في جعبته، بالتأكيد، أشياء ليكشف عنهاـ أشياء اختبرها، بشكل مكثف، طوال حياته المهنية كمحامٍ وإنسان حر. 

(ترجمة: محمد بلوط)

من كتاب طبع حديثا بعنوان: “ذكرى الوفاء”، كان سيتم تقديمه خلال ملتقى لقدماء المعتقلين السياسيين في الأسبوع الماضي بالرباط، إلا أن السلطات لم ترخص بعقد الملتقى.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة